مع شاي الصباح

مع شاي الصباح (جِسْرُنا الأول!)

أحمد سالم ولد باب

عندما عاد الرئيس السنغالي الأسبق ليوبولد سيدار سينگور إلى دكار قادما من باريس، بعد انتخابه سنة 1946 نائبا في البرلمان الفرنسي عن السنغال، استقبله الموريتانيون والسنغاليون على حَدٍّ سواء بِفَرَحٍ وحُبُور، وقد قُدِّرَ لي أن لقيتُ تسعينيًا حضر ذلك الاستقبال، وعَلِقَ بذاكرته منه صراخُ بعض المستقبِلين: “خَلَبِي انْيَوْنَ”!، ومعناها بالولفية: (الطفل وصل).

ومما يُؤْثَرُ عن الرئيس سينگور قوله: إن السنغاليين والموريتانيين شعبٌ واحد في دولتين!

تحتفظ الذاكرة الجمعية والروايات الشفوية، المتداولَةُ بين كبار السن، بمادةٍ كثيفة من تاريخ العلائق العلمية والاجتماعية بين موريتانيا والسنغال، مَدَّتْ جِسْرًا عَرِيضًا من الأُلْفَةِ والتَّآخي بين الشعبين، سَبَقَ بِقُرُونٍ الجسرَ الذي يدشنه اليومَ الرئيسان غزواني وماكي صال.

وإن مما يبعث الأسى في النفس أن هذه المعلوماتِ التاريخيةَ الثمينة ضاعت – أو تكاد – بسبب رحيل رُوَاتِهَا وشُهُودِهَا، قبل أن تَجِدَ من الباحثين من يُقَيِّدُ أَوَابِدِهَا، ويُوَثِّقُ شَوَارِدِهَا.

وهذه مناسبة لدعوة مؤسسات التعليم العالي إلى فتحِ مراكزَ للبحث وكراسي في الجامعات تهتم بهذا الموضوع: تبحث عن وثائقه المكتوبة، وتجمع مادتَه المروية، وتُنَقِّبُ عن قرائنه المادية والأدبية.

في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر قامت في منطقتي ﭼولوف وكايور نهضةٌ علمية عظيمة، يَدُلُّ ما وصلنا من أخبارها أن الإخوةَ السنغاليين أَعْطَوْا كما أخذوا في الميدان العلمي، وأَثَّرُوا كما تَأَثَّرُوا، ويضيق هذا العمود عن اسْتِقْصَاءِ وتَتَبُّعِ ذلك، وحسبي أن أذكر هنا أنه وُجِدَ من علماء الضفة الجنوبية في تلك الفترة مَن كان يُحْسِنُ إِقْرَاءَ “احمرارِ ابن بونه وطُرَّتِهِ على الألفية”، وأَنَّ بعض أعيان الضفة الشمالية المعروفين أخذها عنه.

ومن الوثائق الفقهية النادرة، التي تُوَثِّقُ أواصر المحبة والإعجاب بين الشعبين، ما سجله العلامة القطب بن السالك في رسالته “جُلُّ ما جَمَعَهُ الْجَمَعَةُ في أحكام صلاة الجُمعة”، حين قال: في إخواننا السنغاليين من التشبث بالإسلام، ومعرفة شَرَائِعِهِ، والتَّظَاهُر بِشَعَائِرِهِ، وإحياء معالمه، وتيسير سُبُلِهِ بكثرة المساجد، وتزويدها بالمياه، وأماكن الاغتسال والمرافق، إلى غير ذلك مما لا يكاد يوجد في بلدٍ سواه، مع ما يوجد فيهم من الاستقامة على إقامة الخمس والجمعات، والمحافظة على أوقاتها، ودوام الأذان، وإسباغ الوضوء في القَرِّ والحَرِّ، والمشي في الهواجر والظلمات إلى المساجد، وإحيائها بالذكر والتلاوة، مما يشاهده القاطن والطارق، والغَبِيُّ والحاذق، والحَفِيُّ والْمُمَاذِق…

وقد أحسن – رحمه الله – في الرد على مَن أخذ على السنغاليين أنه لا يكاد يوجد فيهم الاستخلاف، فقال: وهذا إن صح كان الأَوْلَى لنا حَمْلُهُ على الصَّلاح، وعَدُّهُ من الكرامات، لا على سُوء الظن بالإمام، وحَمْله على التَّمادي في صلاةٍ باطلة عمدا، فقد كان هذا النوع يُعَدُّ من كرامات الصالحين، ويدل على حضورهم وإدمانهم العبادة، فقد قيل إن فيهم مَن كان يصلي قدر كذا وكذا يوما بوضوء واحد، وفيهم من صلى الصبح بوضوء العِشاء مدة كذا وكذا سنة، وثبت عن بعض علماء أرضنا أنه عاش قريبا من قَرْنٍ وما سَهَا في صلاةٍ قط، فتبين أن في ذكر عدم وجود الاستخلاف فيهم استقصاءً وتعصبًا، وفقدان حجة شرعية واضحة يُدْلِي بها المتخلف عنهم في الجمعة والجماعة…

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى