مع شاي الصباح

مع شاي الصباح (لِنُعِدْ للاستقلال أَلَقَه.. درسان من تركيا!)

أحمد سالم ولد باب

في مايو 2015 دعوتُ صديقا تُرْكِيًّا للقيام بجولة زورقية في نهر السنغال، وقد اسْتَأْذَنَنِي في اصطحاب وَالِدِ زوجته السبعيني الذي يقيم ضيفًا عنده، قَدَّمَهُ إِلَيَّ بِفَخَار: إنه معلم خَدَمَ أكثر من ثلاثين سنة، يحمل جوازَ سَفَرٍ خاص، يشبه الجواز الدبلوماسي في كثير من خصائصه، تمنحه الدولة لأمثاله من الموظفين عند تقاعدهم، تكريما واعترافا بِبَلَائِهِمْ في خدمة الوطن!

بَدَا العجوز، الذي ألقى سبعين خريفا وراء ظهره، مُتَوَرِّدَ الخدّين سعيدا وهو يداعب حَفِيدَيْهِ، ووجد صديقي، الذي يعرف أحوال المعلمين عندنا جيدا، أَنَّه مدين لي بمزيدِ إيضاحٍ: المعلم في تركيا ذو مكانة رفيعة في أعين الناس، وأحواله المادية مريحة، وإذا تقاعد رجع إلى معاش يَرْبُو على راتبه إِبَّانَ خِدْمته!

قلت في نفسي: كيف تَكْسِبُ الدولةُ وَلَاءَ وَحُبَّ مَنِ استعبدته بأجر زهيد في فترة شبابه وعَطَائِه، ثم تَخَلَّتْ عنه في عَهْدِ اكْتِهَالِهِ وتقاعده؟ فهي تُشْقِيهِ شَابًّا ولا تَرْحَمُه شيخا!

وتذكرت أن العمال في كل مكان يُناضلون من أجل خفض سِنِّ التقاعد، فهم يريدون الاستمتاعَ بمعاشهم الضّخم وبهم بقيةُ قوةٍ ونشاط، أما عمالنا فيطالبون برفع تلك السِّنّ، لأنهم سيبدؤون عند التقاعد مرحلةً جديدة من الكفاح في سبيل لقمة العيش، لم تعد أجسادهم تتحملها، ولعل الجميع يذكر الفرحةَ التي غَمَرَتْ وجوهَ آلاف الموظفين المشرفين على التقاعد؛ حين صادق البرلمان على رفع سن الخدمة العمومية إلى ثلاثة وستين عاما.

ليس هذا فحسب، بل إن تقصيرَ الدولة أو تَخَلِّيهَا عن أَدَاءِ وظائفها جعل القبيلةَ تَحُلُّ مَحَلَّهَا، فهي اليومَ مَنْ يقوم بوظائف الدولة الأصلية، مِنْ ضمانٍ صحي واجتماعي وحمايةٍ للأفراد، ولذلك صار الولاءُ لها لا للدولة، وحين تفاوت الناسُ في رعايتها وحمايتها وعدالتها؛ ذهبوا يلتمسون ذلك لدى قبائلهم وفئاتهم وجِهاتهم فَتَلَقَّتْهُمْ هذه بِصُدُورٍ رَحْبَة.

فمن يلومهم إذا خَبَتْ عاطفتُهم تجاه الدولة، أو ذَوَتْ فرحتُهم بذكرى الاستقلال؟

أَعْجَبُ لطلبة علم الاجتماع وباحثيه الذين لا يتحدثون عن ظواهرَ اجتماعيةٍ كهذه، ويستبدلونها بكلامٍ فارغ لا يُسْمِنُ ولا يغني من جوع!

****

كانت كلماتُ نشيدِنا الوطني السابق تحوي أَسْمَى المعاني الدينية التي لا يختلف عليها اثنان، ومع ذلك لم يكن أكثرُنا  يحفظه، ولم يكن على الأرجح يبعث في أنفسنا مشاعرَ الإجلال والتوقير للوطن..

صَحِبَنَا في نفس الرحلة المذكورة آنفا شاب تركي يدعى “يونس يلماز”، ذو ديانة متينة، وسلوك مستقيم، وإقبال على الشأن.. تَعَلَّمَ العربية في موريتانيا في وقت وجيز، وتخرج نهاية 2016 من المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية.

وكانت أكثرُ الاحتفالات التي يقيمها الأتراك تُفْتَتَحُ – بعد القرآن الكريم – بنشيدهم الوطني، ورغم أن كلمات هذا النشيد لا تحمل أَيَّ معانٍ دينية تقريبا؛ فقد لفت انتباهي – غير مرة – أن يونس كان يقف مُرَدِّدًا كلماته، وهو مغمض العينين، في إجلال وخشوع!

أخبرني متحمسا أن عدد كلمات هذا النشيد 571 كلمة، وهو عَدَدٌ يوافق السنة الميلادية التي ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم!

لم يكن ما قاله الشاب دقيقا؛ لأن فضولي دفعني للبحث عَمَّا قال، فوجدت كلمات النشيد أقل من ذلك بكثير، لكنني خرجت من ذلك الحوار بِدَرْسٍ مفيد: حين تعتني الدولةُ بمواطنيها، وتصون حقوقَهم، وتُوَفِّرُ كرامتهم، فإنهم لا يبذلون لها الوَلَاء فقط، بل يتجاوزن ذلك إلى إضفاء القداسة عليها وعلى رموزها!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى