مقالات

في مهنة المتاعب (2)

محمدُّ سالم ابن جدُّ

تفرد الله سبحانه بالوحدانية وأقام الكون على ثنائية لا انفكاك لها؛ كالأبوين، وبعض الأعضاء، والليل والنهار، والروح والجسد، والخير والشر، والصحة والمرض.. إلى غير ذلك.

ولا يتصور عمل إعلامي خال من جانب فني يتمثل في جهد المصورين والمهندسين والطابعين.. والمخرجين أحيانا. ثم جاءت الشبكة العنكبية فأضافت إضافات كبيرة. ومن هؤلاء يستمد العمل الإعلامي (مرئيا كان أم مسموعا أم مقروءا) شكله وملامحه التي يخرج بها إلى المتلقين، ومن ثم يسوغ لي وصف مهمتهم بالجسد، بينما يمكن اعتبار المادة الإعلامية روحا أيضا. وهذه من عمل قوم آخرين.

يعيش الطرفان في معاناة – ربما كانت متبادلة- جراء الطبيعة البشرية أولا، والضغوط والظروف الحياتية ثانيا، وضرورات عملهم قبل كل ذلك. وسأسوق أمثلة من ذلك بصدق، لكن من جانب واحد؛ هو الجانب الذي بلوته، دون أن يعني ذلك بالضرورة انعدام المعاناة في جهة الفنيين أيضا.

كثيرا ما يضع الطابع نفسه موضع كاتب النص – بل فوقه- فيرى كل ما لم يفهمه خطأ من الكاتب، ويضعنه وفق ما يفهمه فتحدث بذلك غرائب تتفاوت تبعا لمدارك الطابعين ومستوياتهم المعرفية. (من الأمانة القول إن هذا أكثر في ذكورهم من إناثهم(.

في عام 1992 أجريت سلسلة تحقيقات عن بعض المحاظر والواحات صدرت تباعا في جريدة الشعب، وبث بعضها في الإذاعة، وكان إسهام السيد الطابع مقدرا في تحريف الكلم عن مواضعه (قصد التصويب في رأيه!). من ذلك أن شيخا من الذين حاورتهم في معرض الحديث عن مقررات إحدى المحاظر ذكر “الستي” فأردفت بأسماء الستة الجاهليين المشار إليهم، وحين صدر العدد فوجئت بأن عبلة منهم! لأن الطابع لا يعرف علقمة بن عبدة ولا يتصور وجود صواب خارج معلوماته؛ لذا حول الكلمات الثلاث إلى ما يرد ذكره في المسلسلات والأفلام فعطف عنترة على عبلة.

وفي السلسلة ذاتها أنهيت أحد تحقيقاتي بالقول: “وإن أنس لن أنسى أن تگند كانت أول واحة تطؤها قدماي” فتكرم الطابع بتحويل هذا إلى “وأنا لن أنسى أن تگند كانت أول واحة ……؟ قدماي”.

ومرة أعددت لجريدة البيان تقريرا عن مجموعة عاطلين من خريجي آخر دفعة من شعبة الأساتذة في المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، وكان قد مضى على تضييق باب الاكتتاب عشر سنوات، فاخترت عنوانا للموضوع “محنة عمرها عشر سنوات” ولكن الطابعة المحترمة جعلت “مهنتهم” المنشودة في موضع “محنتهم” المشكوة، ولو كانت للقوم مهنة لحل المشكل من أصله.

هذه الأمثلة وغيرها مما يضيق المجال عن ذكره جعلتني في بعض الأحيان أرفق بموادي مناشدة إلى الطابع أن لا يتفلسف وأن يضع الكلمات كما جاءته دون تصرف. لكن أحدهم زاد فطبع المناشدة ذاتها فجاءت بمثابة ديباجة للموضوع.

اليوم صار المرء يسطر مادته بنفسه على حاسوبه وفق مراده، ورحم الله أياما خلت!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى