مقالات

تجديد الفقه

بقلم د. أبوسهلة سيد احمد

من الأمور التي ينبغي إخضاعها للتجديد حتى يجدد النظر فيها كل مسألة كان انبناؤها على العرف، بأن حصل الاستقراء أن لا مستند لها إلا العرف والعادة، وحينئذ يكون البقاء عليها والإفتاء بها عند تغير العرف من عدم الفقه في الدين، وجهل بمدارك الفقه وكيفية تأسيسه.
وقد اشتد نكير الإمام القرافي على من يفتي بما يخالف العرف في المسائل التي مدارها العرف؛ وادعى أن ذلك مجمع عليه بين العلماء، حيث يقول:
(…الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت. وتبطل معها إذا بطلت؛ كالنقود في المعاملات والعيوب في الأعراض في البياعات؛ ونحو ذلك فلو تغيرت العادة في النقد والسكة إلى سكة أخرى لحمل الثمن في البيع عند الإطلاق على السكة التي تجددت العادة بها دون ما قبلها؛ وكذلك إذا كان الشيء عيبا في الثياب في عادة رددنا به المبيع فإذا تغيرت العادة وصار ذلك المكروه محبوبا موجبا لزيادة الثمن لم ترد به؛ وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المرتبة على العوائد وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه؛ بل قد يقع الخلاف في تحقيقه هل وجد أم لا ؟.
وعلى هذا التحرير يظهر أن عرفنا اليوم ليس فيه الحلف بصوم شهرين متتابعين فلا تكاد تجد أحدا بمصر يحلف به فلا ينبغي الفتيا به…
وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك؛ بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده واجره عليه وافته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك فهذا هو الحق الواضح؛ والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين؛ وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين).
بعد هذه المقدمة أو هذا التأطير يعلم أن كلام العلماء قديما عن إسقاط دواء الزوجة عن الزوج وأنه لا يجب عليه أن يداويها، وإنما تداوي نفسها إنما كان مبناه على العرف، والتفسير الذي يقدمه بعض الفقهاء قديما من كون حفظ بدن المرأة عليها وحفظ زينتها على الرجل من الفقه “البارد”!
والحقيقة أن إبداء ذلك الفرق لا يبتعد عن قول بعضهم: إن الصداق ثمن للبضع!
ورغم أن مداد الفقهاء ينضب إلا في مسائل الحقوق، غير أن الإمام ابن رشد ذكر عن مالك أن الزوج يلزمه أن يوفر لزوجته لباس النوم: ” بيجماه” إذا جرى بها عرف، وهو ما يفهم منه أن الدواء من باب أحرى؛ حيث يقول:
(…مسألة وسألته عن الرجل هل يفرض عليه في نفقة امرأته لحاف تلتحفه بالليل، أو نضوح، أو دهن، أو مشط، أو مكحلة، أو صبغ أو ما أشبه ذلك؟ وهل يفرق بينهما إذا وجد النفقة من الطعام والكسوة وإن لم يجد ما وراء ذلك؟ قال ابن القاسم: نعم، يفرض لها اللحاف للليل، والفراش، والوساد، والسرير، إن كان بموضع يحتاج فيه إليه، ولا يستغنى عنه، لخوف العقارب وشبه ذلك، ويفرض ذلك لها الدهن فيما يفرض، وأما المشط والمكحلة والصبغ، فلا أدري ما ذلك؟ ولا أراه، وتفرض لها النفقة والكسوة على قدرها من قدره…)
ثم علق ابن رشد على قول مالك هذا قائلا:
(…قال محمد بن رشد: أوجب في هذه الرواية على الرجل في فرض امرأته من الدهن ما تدهن به، ومن الحنا ما تمشط به؛ وذلك لعرف معروف عندهم، وعادة جرى عليها نساؤهم، ولا يفرض ذلك عندنا؛ إذ لا يعرفه نساؤنا، ولأهل كل بلد من هذا عرفهم وما جرت به عادتهم).
انطلاقا من هذا فإنما كان يقرره الفقهاء من عدم وجوب دواء الزوجة، وعدم وجوب كفنها، لا بأس بإعادة النظر فيه؛ بل والقول بنقيضه اليوم عند ما جرى العرف بوجوبه على الزوج لزوجته.
وقد رأينا كيف أوجب مالك للزوجة على الزوج لباس النوم: “بيجماه” تماشيا مع عرف بلده: المدينة المنورة، وأسقطه ابن رشد تماشيا مع عرف بلده: الأندلس.
والخلاصة أن إيجاب لباس النوم : ” بيجماه ” على الزوج لزوجته؛ وإسقاط الدواء عنه دليل صارخ بأن المسألة تنبني على العرف؛ وينبغي أن تدور معه وجودا وعدما.
وأن وجود أحكام تربط بالعرف دليل على مرونة هذه الشريعة وتقبلها للتكيف مع الناس على مر اﻷزمان والعصور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى