حواراتثقافة وفنون

العائد من الموت لنشر تراث المالكية..

حوار مع مؤسس مركز "نجيبويه" للمخطوطات

(الجزيرة. نت) تستيقظ متعبا، وأنت تشعر بآلام في عظامك، واحتقان في أنفك. فيكون أول ما تفكر به مديرك في العمل، والطبيب الذي يمكن أن يوقع لك ورقة الغياب. لقد اختلّ برنامجك اليومي، بسبب عوارض نزلة برد. هذه قصتي أنا وأنت. أما الناشر الذي لقيته قبل أيام في معرض الدوحة للكتاب، فقصته مختلفة تماما، سقط عليه برميل متفجر، وفقد أكثر حواسّه، ولم يختلّ برنامجه!

في معارض الكتب، يأتي الناس بحثا عن آخر ما أنتجته المطابع، أما أنا فجئت إلى المعرض بحثا عن قصة الرجل الذي عاد من الموت ليطبع الكتب. أخذني صديقي إلى جناح “إتش1-35 دار نجيبويه، المغرب. وقفنا ننتظر أن يفرغ الزبائن المتزاحمون على الجناح، حين انصرفوا بدا لي رجل ناصع البياض، بلحية جليلة لم يغزها الشيب فحسب وإنما استحوذ عليها، فلم تبق فيها شعرة سوداء، يعتمر كُمّة عمانية بيضاء مطرزة بخطوط زرقاء. بدا لي كأنه صفحة فارغة مروّسة بالبسملة. مدّ يده في ثبات، لكن ليس نحو يدي، فهمتُ أنه لا يراني بوضوح، ولكنه يتبع مصدر الصوت، فالتقطتها بالسلام، وقدّمت له نفسي.

وافق على إجراء الحوار، واقترح أن يكون في وقت مبكر في الغد قبل أن يزدحم المعرض، لا يفرّط باعة الكتب في ساعات الذروة التي تكون في المساءات. بكّرت في اليوم التالي، وحين اقتربت من الجناح انتبهت أني نسيت مذكرتي في السيارة. قررت أن أشتري دفترا توفيرا للوقت، توقفت عند دار للخط، وسألت البائعة التي لم تنفض غبار النوم عن وجهها تماما، عن سعر الدفتر، فقالت بتذمر الدفتر بـ20 ريالا! ومع كتابة اسمك عليه 30، ولكن عليك أن تنتظر، فالخطاطة لم تصل بعد. قلت لها هل يمكنني أن آخذه بدون توقيع. نظرت إليّ باستغراب، يأتي الناس إلى هنا لشراء الكتب المحشّوة بالحبر، من هذا الذي يأتي لمعرض الكتاب لشراء أوراق بيضاء! أخذت دفترا أصفر لونه أفقع من بقرة بني إسرائيل. وكان ذلك الدفتر أغلى دفتر أقتنيه، 20 ريالا لـ40 ورقة بيضاء، هذا كثير!

دخلت إلى الجناح، الذي لم يغزه الزبائن بعد، وقد قُسم إلى قسمين، قسم لكتب تراثيّة، وقسم لكتب الأطفال وألعابهم. بدا لي أن أصحاب الجناح يفكرون في استيقاف العائلات من خلال جذب أطفالهم. حيلة تسويقيّة طيبة. في الفاصل البرزخي بين القسمين يجلس صاحب الدار في وقار على كرسيّه المتحرك، سلّمت وجلست بجانبه. لم أستوِ في جلستي حتى بادرني ممازحا بلسان ثقيل وكلمات خرجت متقطّعة “أترك .. لنا .. هذا .. الدفتر .. الجميل .. بعد.. المقابلة!”، ولم يمنعه ثقل النطق من الإعراب فوقف على المفعول به ونعته بفتحتين ظاهرتين “الدفترَ، الجميلَ” استغربتُ كيف تنبّه للدفتر، ومنعني الحياء أن أسأله كيف رأى الدفتر، وهو لا يبصر. لا تستغرب صديقي القارئ، فبعض الصحفيين يستحون! اقترب منا أحد الموظفين في الجناح مصغيا إلى حوارنا، وليعمل مترجما إذا استغلق عليّ شيء من كلام الشيخ الذي يحرّك لسانه بجهد كبير بعد عودته من غيبوبته.

ولد أحمد عبد الكريم بن محمد نجيب، سليم الجوارح عام 1971، في أطمة قرية في ناحية محافظة إدلب في سوريا، التي عاش فيها حتى قرر النظام السوري التضييق على الإسلاميين في أحداث حماة، فتحوّل إلى السعودية. ودرس في خميس مشيط في منطقة عسير حتى الثانوية. ثم درس في كلية الشريعة وأصول الدين في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع رأس الخيمة الذي أغلق لاحقا.

ماذا فعلت بعد فراغك من الدراسة الجامعية؟ سألته:

“قدمت للدكتوراه في جامعة الإسلامية في أم درمان في السودان، ثم توجهت للبوسنة؟”.

البوسنة؟ ما الذي أخذك إلى كبد أوروبا؟

“حين قامت حرب الصرب على البوسنيين ذهبت مدرسا إلى البوسنة والهرسك في الكلية الإسلامية في زينيتسا، كانت البوسنة جرحا إسلاميا نازفا فأردت تضميده، لم أشارك في القتال المسلح، وإنما ذهبت للدعوة ولصيانة الثقافة العربية والإسلامية التي كانت مهددة!” تقع زينيتسيا على بعد 70 كيلومترا شمال العاصمة البوسنية سراييفو وهي مدينة صناعيّة، وإداريّة.

هل التقيت علي عزت بيغوفيتش؟

“التقيت علي عزت بيغوفيتش مرتين. حين أردنا الدخول إلى البوسنة من جهة كرواتيا، طلب منا -نحن العرب- أن ندخل في الموكب الرئاسي تأمينا لزيارتنا. دخلنا بسياراتنا في الموكب حتى وصلنا إلى سراييفو، وكان علي عزت في استقبالنا.

والمرة الثانية؟

“كانت في كلية الدراسات الإسلامية في سراييفو، جاء زائرا، وكان يتكلم معنا عبر مترجم”.

ماذا تذكرون من لقائه الثاني؟

“حكى لنا عن تأثره بنجم الدين أربكان في العمل السياسي، وأثنى كثيرا على الطبيب والداعية السوداني الفاتح حسنين، ووصفه برفيق الصبا”.

متى غادرتم البوسنة؟

“في 1997، عدت إلى قطر، وعملت في المعهد الديني، ثم علّمت العربية للناطقين بغيرها في معهد اللغات بالدوحة. في عام 2001 حصلت على درجة الدكتوراه من جامعة أم درمان الإسلاميّة في السودان، وكان موضوع رسالتي (السنة النبويّة: مكانتها وأثرها في حياة مسلمي البوسنة والهرسك) في 5 مجلدات كبار، أشرف على إعدادها الأستاذ الدكتور مصطفى ديب البغا”.

دخل شاب عشرينيّ يسأل عن شيء لم أتبيّنه، فتوقف الشيخ عن الكلام، وقال “ماذا يريد؟ تعال اقترب!” جاء الشاب، وقال “أبحث عن تفسير الظلال لسيد قطب” فقال ليس عندنا، ستجده في دار في آخر هذا الممر!” ودخل زبون آخر فخشيت أن ينشغل به، فحاولت استعادته إلى الحوار قائلا:

حسنا يا مولانا، ماذا فعلتم بعد حصولكم على الدكتوراه؟

“بعد الدكتوراه، توجّهت إلى أوروبا الغربية، ونزلت في دبلن وعملت في تعليم اللغة العربية في معهد الاستشراق، وبقيت فيها 10 سنوات إلى عام 2011 حين قامت الثورة السورية”.

قضيت وقتا طويلا في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها من البوسنة وإلى دبلن، هل لك تواصل بمن نبغ من طلابك أو بمستشرقين عملت معهم؟

“نبغ كثير من طلابي، لكنهم لا يتواصلون معي!. أريد أن أقول لك شيئا: كونك عربيا تدرس اللغة العربية لغير أهلها، فكل طلابك إما مخابرات، وإما دبلوماسيون وإما مستشرقون. ولأكون صريحا معك، لا يدرس علومنا إلا مخابرات تريد اختراقنا، أو دبلوماسيون يعملون لدينا، وإما مستشرقون، وهم الأقل تحصيلا! على ذكر المستشرقين، أتذكر أنني في البوسنة قدّمتُ موضوعا لرسالة دكتوراه بعنوان “قضية البوسنة والهرسك في الشعر العربي الحديث”، لم أناقشها، أشرف علي سليمان قروزدانتش، مستشرق من أعلم العجم باللغة العربية، وهو ملحد شيوعيّ أحمر” قالها وهو يبتسم، ثم استأنف ومدّ بها صوته ” أحمر فاقع لونه! قال لي مرة مفاخرا: لم أركع لله ركعة!.. فقدوه لأيام، فلما فتحوا عليه داره وجدوه في مكتبه ميّتًا وين يديه أطروحتي..”

بعد قيام الثورة السورية عام 2011، عاد أحمد نجيب إلى بلاده التي فارقها طفلا، ونشط في العمل الدعوي، وفي عام 2012 استهدف طيران النظام سيارة كان يستقلها في حلب.

“سقط علينا برميل متفجر، ودخلت في غيبوبة لـ3 أسابيع، وحين استيقظت لم تستيقظ أكثر حواسّي!”.

كيف أصبحت الحياة بعد إصابتك؟

“بعدها تفرغت للعلم، لأنه لم يبق لدي شيء أقدر على فعله، سوى خدمة التراث، فجلست للتحقيق ونشر المخطوطات. انتخبت مجموعة من الباحثين هذا أحدهم، وأشار إلى الشاب الذي يقف بجانبه ويترجم لي ما يستغلق عليّ من كلامه، يقرؤون عليّ المخطوطات وفي أيديهم الأقلام، فأقول لهم أثبتوا هذا، وصححوا هذا وغيّروا هذا..”.

بدا أنه تعب من الحديث، فتوقف ليلتقط أنفاسه، ثم أردف: “بقيت أتردد بين الشمال السوري وتركيا وموريتانيا والمغرب ومصر، وأشارك في المعارض، بحثا عن فرص لتنقيح وتحقيق الكتب والمخطوطات العربية والإسلاميّة”.

“إذن، فقد بدأت حياتك في الدعوة، ثم التدريس، فلما أصابكم هذا المصاب، لم يتوقف نشاطكم وجلستم للتحقيق!” قلتُ له محاولا تعزيته.

“بالضبط!”.

متى بدأ اهتمامك بالمخطوطات؟

“عندما كنت في البوسنة، ورأيت مآذن المساجد تدمّر وتتطاير منها الأوراق، هالني المشهد، وصرت أجمع ما تصل إليه يدي، ثم جمعت همي لحفظ التراث الإسلامي وتحقيقه. وأصبحت لا أسمع بمزاد في بلد من البلدان، تُعرض فيه أوراق ومخطوطات عربيّة إلا طرت إليه، وبذلت فيها ما لا يبذله غيري حتى يرسو المزاد عليّ، زرت 56 دولة بحثا عن المخطوطات، وأحسب أني أنفقت فيها ثلثي ما جمعته من المال”.

وفي 2005 أسس أحمد نجيب مركز “نجيبويه” للمخطوطات وخدمة التراث في مصر، ثم تطور المركز إلى 4 مؤسسات في 4 دول وهي: دار المذهب للطباعة والنشر في مصر، ومؤسسة قطر الندى للثقافة والإعلام في المغرب، وديوان الشناقطة مَكنَزُ التراث والأدب الشنقيطي في موريتانيا، ومكتبة المناهل في تركيا.

أخبرني عن أول كتاب عملتم على تحقيقه.
المذهب المالكي، ألم يقل شاعرهم:

لقد مزّقت قلبي سهامُ جفونها.. كما مزّق اللخميّ مذهب مالكِ

تبسّم ثم قال بجدّ “هذا كلام العشاق، صحيح أن للخمي اجتهادات خارجة عن المذهب، وهم يتهمونه بسبب جرأته في الخروج عن اختيارات المذهب، ولكنه أحد أركانه، وكما تعلم فقد اعتمد عليه خليل في مختصره، وهو المتن الأساسي اليوم في الفقه المالكي”.

على ذكر العشّاق، لديك آلاف المخطوطات اليوم، ما هي أحب مخطوطة إليك؟

مخطوطة كتاب الأحكام لابن حبيب، وجدته في محظر النباغية في موريتانيا، كنت أبحث عن نسخ من مخطوط التبصرة، فقدم لي الشيخ محمد فال “أُبَّاه” بن عبد الله العلوي الشنقيطي مخطوطا لكتاب الأحكام لعبد الملك بن حبيب الأندلسي (ت 238) وهو المخطوط الوحيد لهذا الكتاب في العالم فيما أعلم، فذهلت عن التبصرة، وبادرت بتحقيقه، وطبعته في 2014 وزارة الأوقاف القطرية.” سكت بعدها وكأنه يستدعي ذكرى بعيدة. ثم قال “في حلب، استولى أعوان النظام على مكتبتي، وفيها مئات المخطوطات النفيسة، فأحرقوها كلها جهلا منهم، ولو علموا ثمنها لكنزوها واستفادوا من ريعها، ولكنه الجهل وما يفعله بصاحبه!” كرهتُ أن يستغرق في ذكرى حزينة، فقلت له:

وما شأن رجل مشرقي من أطمة في سوريا بالمذهب المالكي الذي منذ خرج من دار الهجرة إلى المغرب ثم لم يعد إليها؟

تبسّم ابتسامة عريضة، وقال بصوته المتقطع “يمشي شخص شريف ونبيل في الشارع، فيجد طفلا بارع الجمال لكنه بالي الأسمال، كئيب المنظر، أهمله أهله وربما تخلوا عنه، فعانى من شظف العيش وضيق الحال حتى كادت ملامحه تتغيّر، فقام هذا الرجل بأخذ الطفل، وغسله وألبسه خير لباس، واهتم بتعليمه وتقديمه للناس.. ذلك الرجل هو أنا، والطفل الذي أهمله أهله هو مذهب الإمام مالك!

لقد أهمل المالكية مذهبهم، ولم يُسعد برعاية كما سعدت المذاهب الأخرى، فالمذهب الحنبلي خدمه النفط، ومذهب أبي حنيفة نصرته دولة الأتراك، وانتشر خلال السلطنة العثمانية، والمذهب الشافعي انتشر في الهند، ولقي عناية في جنوب آسيا، أما مذهب الإمام مالك، فانزوى بعد أن سقطت الأندلس، وقُتل علماؤه وعوامُّه في محاكم التفتيش، وهاجر من بقي منهم إلى المغرب، هاربين لا يلوون على شيء، حتى أذن الله لي بأن أخدمه الخدمة اللائقة به!”.

وهل تمذهبت به؟

“لا لست متمذهبا، لكني لا أخرج عن آراء الأئمة الأربعة في اختياراتي”.

حسنا، بعد كل هذا التطواف، أين ألقيتم عصا النوى؟

“لم نلقها بعد. ما زلنا مرتحلين!” قالها مبتسما والتفت إلى مساعده وضحكا. ثم أكمل “وصلت إلى موريتانيا، اهتممت كثيرا بتراث موريتانيا التي أحمل جنسيتها!”

تحمل الجنسية الموريتانية! كيف حصل هذا؟

“في 2021 شرفنا رئيس الجمهورية، محمد ولد الغزواني، واستضافنا في القصر الرئاسي، وأمر لي ولأبنائي بالجنسية، جزاء عنايتي بالتراث الموريتاني. فقد نشرت كثيرا من التراث الشنقيطي. على كل حال، ليس لي محل إقامة، إقامتي أكثرها في تركيا، وأقلها في موريتانيا”.

في إسطنبول؟

“لا في أنطاكيا، في الثغر. في ثغر أنطاكيا”.

أرجو أنكم لم تتأثروا بالزلزال الأخير

“سلمنا الله، لعله ادخرنا لشيء نعمله في خدمة الإسلام والمسلمين..”.

المصدر : الجزيرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى