مقالات

في مهنة المتاعب (10)

محمدُّ سالم ابن جد

“كانت السيارة تشق المكان إلى الأمام فيما تشق الذاكرة الزمان إلى الخلف.. إلى الثلث الأول من يوليو الماضي (1992) تاريخ أصعب امتحان أخوضه في مهنة المتاعب حتى الآن؛ حين ساقني القضاء إلى إدارة نقاش ربما فاقت جديته حاجبي هتلر، حول عوز المناعة (السيدا) فمرة أخرى أجد نفسي وجها لوجه مع داء العصر!!
حري بي أن أتساءل: ما لدعي العلوم الشرعية واللغوية وللإعلام ثم لعوز المناعة؟!”
كتبت هذا في مقدمة موضوع نشر في الصفحتين 9 – 10 من جريدة الشعب الصادرة صباح الخميس 24 من شوال 1413هـ (14 /4/ 1993م) حين أجريت تحقيقا عن ضعف الاحتياط الصحي في المؤسسات الاستشفائية، كان النموذج الأبرز فيه شابا بدأ تعاطي علاج السل الرئوي بمستشفى صباح في إبريل 1991 وفي نوفمبر من العام نفسه تم تشخيص فيروس عوز المناعة فيه (الإيدز/ السيدا) جراء تلوث إبر الحقن، كما يتضح من بطاقة المتابعة.
أما ما لم أكتبه قبل اليوم فهو الحرج الشديد الذي وقعت فيه حين مد الشاب يده إلي مبتسما! لم تَجِدْ غريزة حب الحياة محلا أمام الشعور الذي انتابني فصافحته بعطف صادق واطمئنان ظاهري، وسَرّيت عنه طلبا لرفع معنوياته، وواصلت عملي الصحفي، ثم ذهبت السكرة وجاءت الفكرة.
ما ذا جنيت على نفسي؟ كيف صافحت مريضا لا شك أن جسمه ينضح بالمجهريات المميتة؟ وكيف لا أصافحه؟ هل أستطيع الإعراض عنه وتجاهل يده الممدودة نحوي من بين أمواج الآلام وابتسامته الشاحبة بين فكي دائه العضال؟ ثم إن فيروس دائه ضعيف لا تطول حياته على سطح الجلد؟ لكن ما يدريني هل في راحته شق راشح أو متى عهد أنامله بأنفه أو غيره من شبه باطن جسده حيث تسرح الفيروسات وتمرح مدة أطول؟
أسئلة مسلسلة لم أفلح في التخلص منها بعد خروجي من مكان المريض فنغصت مقيلي وما بعده. ومع علمي بضعف احتمال العدوى في المصافحة دخلت الحمام فغسلت يمناي إلى المرفق بماء جافيل باستيعاب وإتقان، إلا أن هذا لم يشجعني على الاطمئنان إليها فأمضيت يومي وليلة بعده لا ألمس بها بدني ولا أصافح بها إلا من وراء حجاب.
يومئذ تعرضت للخطر جبرا لخاطر الشاب الذي ربما لم تطل حياته بعدي فوقاني الله من غائلة فعلي، وها أنا أكتب عن ذلك بعد حوالي 30 سنة ولله الحمد من قبل ومن بعد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى