مقالات

ذكريات “الدَّيْرَه”!

أحمد سالم بن زياد

أدركت أول ما عقلت “التدخين” عادةً منتشرة في المجتمع؛ بين رجال يدخنون التبغ في “أعظام” (قصبات) لطيفة من حديد، منقوشة بنحاس، وأخرى من “عظم” حيواني، ونساء يدخن في “طوباتهن” (غلايينهن المعقوفة = جمع غليون)..
كان الدخان، الذي يخنق أنفاسي بساحبته، حاضرا دائما في أغلب جلسات الشاي وما بعد الغداء، وأنيس كل سامر. ولعل كرهي لرائحة الدخان سببه كره الوالدة – حفظها الله – لرائحته، وتأذيها منه..
أول تماس حقيقي بيني مع التبغ، فيما أذكر، كان عندما سقطت بعض (امنيجه) في عيني، اشتعلت عيناي، كأن فلفلا حارا سقط فيهما.. كانوا يقولون: “لا تخف، التبغ يقوي العين”.. في انتظار مصداق كلامهم أصبت برمد، حبسني أياما عن اللعب مع الرفاق.. لم تكن تجربة سارة أبدا..!
ربما قادتني “شقاوة” الأطفال فأتصيد غفلة الكبار عن “طوبة” أو “عظم” فأتلقفه، وأضعه في فمي، ليمتلئ “بالعسلة” فأسعل وأتقيأ.. “العسلة” الحاضرة في علاج الجراح.. وخصوصا الشوك المتقيح، الشوك منغص اللعب والجري على تلك الكثبان الناعمة..
حتى جدي رحمه، الذي لم يدخن قط في حياته، لم تكن تخلو مخازنه من تبغ يوزعه على كبار السن وبعض معتافيه. كنت أسمع دائما عن فوائد التبغ.. لم تكن الحملة العالمية ضد التبغ قد بلغت ذروتها، فالتدخين علاج للعين ولألم الأضراس.. حتى أنني سمعت سيدة قادمة من المناطق الشرقية تقول لصاحب حانوت بعبارتها: “راجل ما يكمي ما يلوح فيه شي”.. هكذا كنا نعتقد أيام المراهقة!
المجلات – على قلتها – كانت لا تخلو من صورة راعي البقر الأشهر “روبرت نوريس” والسيجارة في فمه، لا تفارقه.. وهو الذي لم يدخن قط في حياته.
في مرحلة لاحقة كانت السيارات تجوب نواكشوط، توزع على المارة والأطفال ترويجا لبائر سجائرها (ربما) وجديدها..
لست أنسى تلك النظرة الزاجرة التي حدجتني بها الوالدة عندما تأففتُ من دخان سجائر أحد المدخنين وهو ينفثها يمنة ويسرة.. كدت أختنق، لكن العادات والتقاليد تحظر على الصغير أن يتذمر من أفعال الكبار..
تمر الأيام سريعة ليلتحق كثر من أصدقائي بقطار المدخنين، وهم فوق العاشرة ودونها بقليل. أغلبهم دون علم ذويه، وإن كان بعض الكبار ربما شجع صغاره بتفاوت على التدخين بمختلف الوسائل.
كنت أقف ضد تدخين أصدقائي، ولا أتصور يوما أني سأبتلى به.. حتى جاء ذلك اليوم.. كنت أقف أمام إعدادية الميناء رفقة بعض الزملاء.. لا أذكر السبب الذي جعلني آخذ سيجارة من أحدهم.. شرقت بدخانها عند أول رشفة.. ضحك مني أحدهم.. تحداني أن أشرب سيجارة دون أن أشرق.. نجحت في التحدي وليتني لم أفعل.. استمرت رحلة إدماني سبع سنوات طوال، تنوعت في التدخين بين “السجائر” و”التبغ”، وتدرجت من لفافة تبغ ولفافتين في اليوم إلى علبة وعلبتين وربما ثلاثة. ورغم ما في الرحلة من متعة، إلا أنها كانت مريرة مرارة الفشل، بعد عشرات محاولات الإقلاع..
آه، ما أصعب وأَمَرَّ رحلة الإقلاع، ولولا فضل الله لما تجاوزتها.. كنت قد بلغت الذروة في الإدمان.. أسهر على بقية علبة، وأستيقظ على أخرى.. أصبح أخشى ما أخشاه أن أنتقل إلى إدمان أكبر.. الحشيش أو ما بعد الحشيش، فأي إنسان رهين خيط دخان.. أعظم وأهم موجود عنده، وأعز مفقود لديه، لا يعلم متى ولا كيف سينتقل إلى مرحلة أخطر من إدمانه. إن مادة الإدمان واحدة، وأي تغلب من الإنسان على نوع منه، هو تغلب منه عليه كله، وأي انهزام أمام نوع منه، هو انهزام أمام كل إدمان. ما أدراني أن تحديا آخر من صديق آخر أو عدو؛ ينقلني في لحظة إلى درك من جحيم الإدمان عميق؟!
أستطيع أن أقول إنني قلبت صفحة من حياتي مظلمة يوم قررت أن لا أشتري السجائر إلا بعد العودة في المساء من الرياضة.. لقد كانت يقظة حقيقية، دفعتني بعيدا عن ذلك العالم المظلم.. النتن. مرت أيام علي وأنا لا أرى في مخيلتي غير سيجارة. وكأن شيئا يقول لي: “سيجارة واحدة لن تضرك”، كنت أنتفض وأقول في نفسي بإصرار: “وهل فعل بي الأفاعيل غير “سيجارة”؟! حتى في أحلامي ولسنوات ظلت تلك “السيجارة” تطاردني وتقض مضجعي.. كانت انتفاضة عجيبة، أيقظت الهمة، وحركت النفس إلى عوالم أخر.
رغم كل ذلك؛ تعلق في نفسي ذكريات عن التدخين لا تنسى، منها تسابقي مع صديقي عند الإفطار إلى “آنشيش” مُعَدّ للمناسبة؛ أينا سيسبق له.. “آنشيش” “زاهك”، و”امنيجه” معلومة.. ولا تسأل عن الخبر!
ومن الطريف أن أحد الكبار كان يكيد لنا ويتعمد أن يجلس مع الوالد – رحمه الله – على “عُدَّة تدخيننا” قبيل السحور؛ حتى إذا بقيت دقائق معدودة على الإمساك سحب الوالد إلى غرفة أخرى وهو يضحك..
ما أكثر حالات “آتري” المفاجئة، الناتجة عن انتهاء السجائر على حين غِرّة، وما أكثر ما تفعل، أو حالة إفلاس مصاحبة. وكم بت أبحث عن عود ثقاب مرمي هنا أو هناك، أو أفتش “الرّمادة” ألملم أعقاب السجائر.
لا حدّ لأصغر مدخن رأيته؛ لكن أكبر مدخن أو أغربه كان شيخا طويلا عظيم الكراديس؛ رأيته قرب المذرذرة في نهاية التسعينات؛ وهو يدخن في أكبر “عظم” مر بي!
أول هدية أهديتها لوالدي – رحمه الله – كانت عظما صغير الحجم، اشتريته من سوق “لحموم”.. فكان يدخن فيه أمامنا، حتى إذا فعل به “آتري” فعلته؛ خرج من المجلس بهدوء وأخرج عظمه الأثير.. كنت ألتفت بسرعة عندما أراه يخفي عني تدخينه في “عظمه” الكبير، وأضحك في داخلي.
ما أشهى وألذ رائحة دخانه! وما أجمل وأرشق طريقة تناوله “لبيته” وإخراجه لعظمه، واديار “امنيجه”، وإشعال “العظم” ونفثه للدخان.. حركات نبيلة، تنتمي لزمن الفتوة.
كان يقول إن التدخين هو أفضل علاج للنوبات القلبية التي تداهمه في الليل غالبا.. وفي ليلة سفره إلى بلاد الحرمين أخرج “اشروطه” بهدوء دون أن يعلم أحد؛ وأودعهما لحفيده.. وسافر. كانت آخر مرة يدخن فيها، بعد أن أعجز الناصحين والأطباء.
أردت من الشيخ حمدا أن يشرفني ب “تُزْهاك عظمه”.. رفض متسائلا إن كنت شاذليا أم قادريا (وكلا الطريقتين تكثر في مجتمعي) أم أنني مسلم (Ordinaire) وهي التي كان يظن بي الشيخ. ابتسمت ولم أجبه.
قد يعجب البعض أن سماحة الوالد رحمه الله كان هو وفضيلة الشيخ حمدًا مدخنين.. أدركت كثيرا من فضلاء المنطقة يدخنون.
أكرم الناس المدخنين.. وقل أن تستغيث بمدخن إلا أغاثك ب “ميش” أو “دَيره” وإلا “لحك” لك..
عشت الاشتراكية في التدخين مرات عديدة، مرات مع “العصر” حيث كنا ندخن حتى آخر سيجارة في جيب أحدنا، ثم نتحول إلى “امنيجه” إلى أن يفرجها الله، وربما اشترك النفر في “ميش”!
أما الاشتراكية الكبرى فكانت في المحظرة، حيث كان جميع المدخنين يدخنون من “عظم” واحد، وبولاعة واحدة، ومن صرة من “امنيجة” واحدة.. ولكثرة دورانها في الأيدي كنا ننسى صاحبها الأصلي، وإذا انتهت امنيجة فهناك من يسارع لشرائها كل مرة من عند عويشة – حفظها الله – دينا على الغالب الأغلب.. أما “بيت الشباب” في جوسوان (غامبيا) فكانت الإشتراكية فيه أوسع بكثير.
لا تزال بعض الأوقات وبعض المجالس والهيئات – رغم كل تلك السنين – تغريني بلفافة تبغ أو بعظم “زاهق”.. فإذا جاء الشتاء فكل شيء يغري بالتدخين..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى