مقالات

السّفر سِفر العبر…!

بقلم: الهادي حافظ

يكاد يجزم العبد الفقير إلى ربه هذا أن السفر من أوسع الأبواب لتنمية العقل، فمن سافر كثيرا عقل كثيرا.. فالمسافرون هم عقلاء أهل الأرض إن أرادوا!
قد يقول قائل:
رأينا من امتطى عصا الترحال واعتاد السير شرق البلاد وغربها ولم نلمس عنده كبير عقل ولم نر لذلك أثرا على فكره ووعيه، فخلايا دورة حياة البشر “من مركبات” في هذه الأرض تتحرك بالساعات واللحظات، ومن يقودها لم نره أعقل أهل الأرض كما تزعم!
نعم هو كذلك، ولكن:
أولئك سافروا بأجسادهم، والسفر الذي أعني هنا هو:
السفر بالعقل والقلب..

ذات مرة ركبت عصا الترحال من دولة عربية إلى أخرى ولما وصلت الحدود كأي مواطن جمع بين الغربة عن وطنه وانتمائه لبسطاء الناس:
فلا حظ له من شهرة أو مال أو علم أو سلطة يشفع له ولا وطن يحميه.. فكان من المعتاد أن أنال نصيبي من صلافة شرطة الحدود.. والتي لم يخفف وطأتها علي سوى شرطي خرج من بين الجماعة وأولى عناية بعد أن علم أنني موريتاني فأوصى بي خيرا وهو يردد على مسامع صاحبه:
هؤلاء أهل العلم، ثم لم يأل جهدا مشكورا..

فلما انتقلت إلى الحدود الأخرى ما إن علموا أنني موريتاني حتى اجتمعوا كأطفال عثروا فجأة على قطة في وقت فراغهم فجمعوا لها بين السخرية واللعب..

طبعا رغم صعوبة الموقف إلا أنني تماسكت وحاولت أن لا أزيد على التذكير بأخوة الشعبين وبما يحظى به شعب دولتهم من إكرام في بلدي.. وبعد انتظار كاد يطول رجعت إلى الحدود الأخرى بعد أن ختموا لي الدخول والخروج في آن واحد، ولولا جهود وتوصيات الضابط الكريم في الجهة الأخرى ربما لكان الموقف أكثر صعوبة وأطول زمانا..

عدت إلى الجهة الأخرى أجر حقائبي، ذليل الظاهر عامر القلب بالحمد والثناء على الواهب الذي أكرم وأنعم القلب بالرضا مع كل حدث ولو جاء عكس مبتغى الجسد، فوجدت الشرطي الكريم يسألني عن سبب رجوعي ولما أخبرته أوصى صاحب سيارة بأن يصطحبني معه حتى أبلغ أقرب مدينة حيث حافلةٌ إلى وجهتي..

ولما ركبت مع السائق بدأنا تبادل أطراف الحديث من هنا وهناك، وبدأ يسألني عن الصحراء هل أعرفها؟
فقلت في نفسي وهل شيبني سوى الصحراء والسير والاضجاع على كثبان الصحراء..
سألته: هل اعتاد عبور هذه الحدود؟
فقال: نعم، هذه حدود وضعها المستعمر، فنحن أسرة واحدة أبي هنا وعمي هناك..
فقلت: صحيح، فالحدود طارئة، أتت بعد تواشج العلاقات بين الشعوب، ففرقتهم للأسف، وأي شيء أغرب لك من أن المستعمر الذي وضع الحدود بيننا نزعها بين دوله؟ فليتنا اقتدينا به في هذه كما نفعل مع غيرها!
ودعني السيد بعد أن سلمني لسيارة أخرى وهو يلح في تقديم هدية كدت أن لا أقبلها حتى عللها قائلا هذا ثمن ضيافتي بدل الأخذ من وقتك لأجل الغداء سويا..

بت في المدينة بعد أن فاتني موعد انطلاق الحافلة المتجهة إلى وجهتي، ولما كان يوم غد قطعت تذكرة وجلست في قاعة الانتظار أفكر في أمرين:
الأول تباين وسائل النقل بحسب اختلاف مستويات البشر ماديا، هنا حافلة وهناك طائرة..
والثاني: الوجوه التي سأراها رؤية عابرة قد لا تتكرر، لأنني لا أعتبر شيئا في هذا الكون جاء عبثا، فهل هو دعاء أحدهم لك أم دعاءك له أم هما معا أم هي فرصة للحمد على النعم أم التأمل في التنوع المبهر في الأشكال والعادات.. أم هو كل ذلك؟ من أسئلة تفتح على العقل باب إدراك قصوره ومعرفة عظمة خالقه..

انطلقت الحافلة تطوي البيداء وأنا أنظر من نافذة الحافلة في الصحراء وأقول مع القائل:
أما الخيام فإنها كخيامهم
وأرى نساء الحي غير نسائها
انتظرت السائق كالعادة يتوفق في محطة ما للصلاة والغداء ولكنه كان يتوقف في محطات نقل المسافرين فقط فلم أرد أخذ وقت الجماعة بالنزول لما للسفر من حق جعل الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول:
(ليس من البر الصوم في السفر)

ولما كاد وقت الظهرين يخرج مع غروب الشمس اتجهت إليه وقلت له ليتك تقف بنا في محطة لنصلي قبل خروج الوقت.. ثم أعدت الطلب حتى انتبه جمع المسافرين، وفي طريق عودتي منه اعترضني شاب وبدأ يقول بكل بساطة:
يمكنك أن تصلي على كرسي الحافلة، فقلت له:
لعلك تقصد النافلة! فقال:
بل أقصد الفريضة، فهو أي السائق قد يكون لا يصلي وأنا لا أصلي ولكن قرأتها عند الفوزان!!
فعجبت من بالغ في بلاد الإسلام يكرر بكل بساطة هكذا أمر، ثم عجبت أكثر ممن يتكلم في أحكام الصلاة وهو لا يصلي، وعلمت كيف فتنت الوهابية أمة الإسلام..

كادت الشمس تغرب ولم أر استجابة لطلبي من السائق فتذكرت قول أشهب رحمه الله في حكم من عدم الماء والتراب في قول الناظم:
ومن لم يجد ماء ولا متيمما
فأربعة الأقوال يحكين مذهبا
يصلي و يقضي عكس ما قال مالك
وأصبغ يقضي و الأداء لأشهب
فأديتها مع العزم أن أعيد الطلب مرة أخرى، فاستنجدت بشيخ مسن بجواري عسى السائق أن يستجيب له، ولكنه ما زادني على ذكر حرمة الصلاة في وقت كهذا لاقتراب غروب الشمس، فقلت له أنا أقصد الفريضة وليست النافلة..

المهم قررت أن أعيد الطلب مرة أخرى واستعرت قنينة ماء من جار لي للوضوء، فاستجاب السائق بعد عتاب كثير مفاده أن أمامهم سفر طويل، وأنه علي أن أتقي الله فيهم فهم لم يروا أبناءهم منذ أيام..!
فابتسمت وقلت له أنا أطلب الصلاة وليس شيئا آخر ولن يأخذ من وقتكم أكثر من خمس دقائق والأمر مرتبط بالوقت ليس إلا.. طبعا ثرثر هداني الله في كلام من قبيل نحن كلنا نصلي…
توقفت الحافلة وصليت صلاة غير الخاشع ورجعت مسرعا لمكاني والقوم عفا الله عني وعنهم يعاقرون السجائر بكل هدوء كأنهم نسوا السفر الطويل وما صلوا للذي حفظهم نسأل الله العافية..

رجعت لمقعدي بعد أن زدت نصيبا على نصيبي من غربة الجسد والفكر، وأنا أفكر في حال هذه الأمة التي هذا حال شبابها مع عماد الدين، فعلمت أن الهوان الحاصل للأمة لم يكن اعتباطا، فحين يكون هذا حال شبابها في السفر الذي يرجع فيه الغافل مثلي إلى ربه خوفا من عاديات الزمن وبأس الحديد، فكيف به وهو في بيته قد اجتمع له من المغريات ما تشغل القانت عن عبادته..

لم يطل بنا المسار كثيرا حتى دخلنا مدينة ليأخذ منها السائق بعض الركاب، فما كاد أن ينطلق حتى صعد له أحد مراقبي قطاع النقل وأخذ أوراقه بحجة عدم الالتزام بالقانون، فتوقفنا كثيرا ننتظر حل المشكل، فما كاد ينطلق كذلك حتى أوقفته الشرطة وبدأت في تفتيش الركاب من الشباب خاصة فمكثنا وقتا آخر..
فتذكرت في نفسي مثلنا الشعبي:
لل يبقي همو يصلح يسبك هم عربيه!

نزلت في وجهتي بعد تأخر قارب الساعتين وأخذت حقائبي داعيا الله لي ولأبناء هذه الأمة أن يردنا إليه بقدر حاجتنا إليه..
حامدا الله على نعمة الثبات على أداء شعائر الإسلام رغم التقصير، ومتأملا الحكمة من السفر وكيف لو علم كل أحد سرعة نهايته لبذل ما بوسعه في سبيل الإحسان لكل من التقى بهم ثم الاجتهاد في ملء لحظات ذلك السفر بالخير قبل طي صفحاته، وشبه السفر بالعمر، وهذا ما عقله السلف فكانت أعماره أوعية خير ونفع..

حفظنا الله وإياكم أينما حللنا وعمر لنا أعمارنا بالصالحات، وعجل بالفرج عن أمة الحبيب صلى الله عليه وسلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى