مقالات

الرائد محمد ولد شيخنا: في تأبين الفارس مولاي ولد إبراهيم

اللهم سيدي ومولاي، ارحم عبدك مولاي !

لأسباب مختلفة لا أخفي أنه قد حصل لدي بعض تردد.. تردد في تدبيج تأبين مستحق – و لو في سطور – بحق شخص عزيز ومميز، أرى له علي منة وواجب تثمين، ألا وهو المرحوم مولاي ولد إبراهيم ولد الطالب دحمان، طيب الله ثراه.
غير أن العاطفة التي غالبت لأيام كانت لها الغلبة في النهاية، ولعل ذلك هو الأولى والأنسب. بالطبع سأقتصر فيما أتناول على اجتزاء ما يخصني من ذكريات شخصية، وإن كان الأمر يقع ضمن صورة كلية معينة.
عرفت المرحوم مولاي لأول مرة في ظروف خاصة صعبة ربما يفر فيها الوالد من المولود.
مساء الخميس 28 يونيو 2003 أخبرني اعل (الدوه) ولد محمد ولد الطالب أحمد، الذي هو بحكم أخي الأصغر (فهو ابن قريتي بنعمان بلعيون)، أن أحدا صار يشرف على الموضوع سيزورني بعد صلاة العصر.
ويبدو أن مولاي رجع للبلاد خصيصا لإنجاز هذه المهمة بعد تعذر إتمامها على يد غيره.
كان الدوه قد بدأ منذ أيام يتناوب على رعاية أموري مع الأخ الفاضل إدوم ولد سيد امحمد ولد بمباي (قريب من مدينة كيهيدي).
حاولت إصلاح حالي بما تسنى، ثم أخيرا دلف إلى صالون المنزل، الذي كان الله قد من به علي أخيرا منذ حوالي أسبوع بحي “كارفور” قرب مسجد “التوفيق” بعد فترة غير قصيرة من التيه واللطف.
لم يكن ثمة فراش على قدر المقام، وإنما أغراض مبعثرة أكثرها ذات طبيعة لوجستية، ومذياع، و…
كان الزائر شابا في سن النضج، ظاهر البنية، يتسم بنضارة الوجه وحسن الهيئة. خلال اللقاء ظل طلق المحيا، دائم البسمة، يشع من عينيه التفرس والعطف.
بهدوء حدثني أنه قادم مع قرار بالمساعدة والعمل على ترتيب إخراجنا من البلد في قادم الأيام.
ثم أضاف أن الأخ صالح ولد حننا لا يزال موجودا في انواكشوط، وأننا سنلتقي قريبا لكوننا سنسافر معا.
في البداية حاولت أن أشرح له دوافعنا الإصلاحية ونوايانا الحسنة للبلد، وأننا ما خرجنا أَشَرًا ولا بَطَرًا…
أراد أن نتجاوز ذلك بسرعة؛ إذ رد علي حتى قبل أن أكمل في استرسالي: الناس تعرف هذا، وهي تتفهمكم (أو تؤيدكم؟)، فإذن لا تهتم لما تسمع في المذياع من مسيرات وأقوال أصحاب المصالح التي يريدون الحفاظ عليها.
حاولت أن أعرف منه طريقة تفكيرهم في آلية إخراجنا وكيفية ذلك، فشرح لي ما هم بصدده، وقد وجدت ما عرض منطقيا وعمليا، بل مقبولا أمنيا.
قبل الانصراف قال لي: بماذا توصي؟ وزاد: بشأن الأسرة مثلا؟
رددت عليه: لا أوصي بشيء، فأنا أَكِلُ أمرهم لله.
رد علي: نحن من أمر الله.
قلت له: الصبية أريد لهم أن يقرأوا القرآن، لكن المهم هو الوالد. لقد كان مبرمجا له عملية (بروستات) عند مصحة الطبيب الخليل ولد اجدود.
وعند تذكر حالة الوالد انتابني بعض الحزن، وحتى الانفعال، وهو أمر لا يزال يحدث معي كلما ذكرت مثل ذلك الموقف.
وقبل أن أبتعد كثيرا، أريد أن أنوه أن الطبيب جراح المسالك البولية الشيخاني ولد اجدود أرسل بعد ذلك من يبلغ الأسرة أنه مستعد لإجراء العملية كما كان مبرمجا، وعلى حسابه، فجازاه الله خيرا.
غير أن تلك العملية لن تجرى إلا بعد مرور 8 سنوات لاحقة (في 2011)، وبالمنظار بواسطة أستاذ مبرز تونسي.
خرج زائري الذي سأعرف لاحقا أنه لم يكن سوى مولاي ولد إبراهيم..
وبعد اللقاء تسارعت الأمور بشكل دراماتيكي، إذ في نفس المساء تم جمعي بالأخ صالح القادم من ملجإ ما في دار النعيم. وسأترك للقارئ حرية وسقف التخمين حول مشاعر وحيثيات مثل ذلك اللقاء الأول بعد كل ما كان قد جرى.
بين صلاتي المغرب والعشاء بُوشرت عمليةُ تحويلنا إلى منزل آخر يبعد حوالي مائتي متر إلى الجنوب الشرقي. في البداية خرج الأخ صالح رفقة الشاب اعل (الدوه)، ثم رجع الأخير ليأخذني إلى حيث محمد ولد آلويمين (محمد ديكو)، الذي دار بي في بعض طرقات كرفور، ثم عاد ودخل بي في منزل يفتح إلى الشرق على شارع ضيق.
لقد سمعت المرحوم مولاي يقول لنا الليلة الموالية متندرا أنه بعد أن دخل كلانا، وأغلق محمد ديكو الباب الخارجي للحائط، مر هو أمام المنزل ليطمئن؛ فإذا به يرى من الخارج – عبر باب أو نافذة – الأخ صالح واقفا بكل وضوح. لقد شق ذلك عليه وتمنى لو أنه يغير مكان وقوفه، وفجأة انقطعت الكهرباء لتنقذ الموقف!
لأربع ليال تالية كان زوارنا ليليين فقط:
– محمد ديكو يأتي بالوجبات الساخنة،
– أما هو فكان يعتني بترتيبات السفر.
كان يتحفنا بالأخبار، وما يتداول من شائعات وتخمينات، كما انخرط معنا أحيانا في نقاشات حول الآفاق.
ثم طلب منا إعداد خطاب ليسجل قبل السفر، لكنه مع ذلك احتاط بأن حضر مقترح خطاب وجدناه يفي بالغرض مع إدخال تعديلات طفيفة.
أشرف بنفسه على تدبير عملية التسجيل، وحتى أنه عمل صورا شمسية ربما لإنجاز وثائق سفر ممكنة لنا في إحدى الدول الإفريقية.
مع غروب يوم الاثنين 30 يونيو 2003 (وهو نفس يوم سفر الرئيس معاوية إلى إسبانيا) جاءنا ليهيئنا للمغادرة بسيارة (تويوتا LX) يبدو أنها كانت في الأصل للمرحوم العقيد ديانق عمار هارونا، ويسوقها المثقف الألمعي والأديب البطل سيدي محمد ولد احريمو.
سمعت من المرحوم مولاي يقول بعد عودتنا إنه لما كنا في عهدته لقي الأخ سيد محمد ولد احريمو، ووصفه بأنه كان ساخطا على كل الموريتانيين لخذلانهم الجماعة. فرد عليه مولاي: وهل أنت مستعد لأن تركب من المخاطرة نفس درجة ما تأخذ على الناس التقاصر عنه؟ فرد عليه سيدي محمد بالإبجاب. عندها قال له مولاي: آه ! لقد جاءتك الفرصة، الجماعة عندي، وأريد لهم سائقا ليخرجهم. فقبل سيدي محمد بحماسة فكان ما كان.
والسؤال المطروح: هل أوقع المرحوم زميله في ورطة، أم أنه جعل الزمان يبتسم له عبر فرصة؟
بعد خروجنا فقدت الصلة بالمرحوم مولاي إلى أن سمعت ذكره في إذاعة موريتانيا ضمن مناسبة أخرى عصيبة، وهي اعتقال الأخوين: البطل عبد الرحمن ولد ميني، ولاحقا الرئيس صالح ولد حننا، في سبتمبر 2004.
ويبدو أن مولاي كان هناك، لكنه نجا من الاعتقال بحسن تصرفه وهدوئه وحظه الميمون.
ولم تكن لي صلة به خلال وجوده ببلجيكا، لكن بعد العودة من المنفى كان هو من رافق الجماعة في جولتها عبر أرجاء الوطن، كما صار هو المتحدث باسم الوفد، حيث تكلم على الدوام بما هو مناسب في كل مرحلة مع فائض أريحية وحذق.
وكان بعد ذلك قريبا من مخاضات إنشاء حزب حاتم، وما تخللها أحيانا من مطبات ولحظات محتدمة.
ولقد استعان في كل ذلك بزاد وافر من سعة الأفق والإيجاببة والصبر.
وضمن تلك الديناميكيات وما تخللها من حراك؛ فقد كانت هناك مناسبات عديدة.. حضرت وإياه اجتماعات تحضيرية مهمة، وأحيانا مفاوضات صعبة مع قوى الإصلاح والتغيير، المكونة حينها من شخصيات سياسية وازنة وتيارات سياسية عديدة، حصل بينها ائتلاف في ذلك الظرف السياسي الخاص، وكانت تبحث عن أرضية مشتركة للإصلاح والتغيير مع الفرسان.
كما أجرينا اجتماعات أخرى مع شخصيات وطنية مشهورة، أحدها مع المرحوم أحمد بابا مسكه في فندق “مرحبا”، و…
والخلاصة التي علقت بذهني حينها عن المرحوم مولاي أنه شخص متدين وملتزم حركيا، لكنه أبعد ما يكون عن التقوقع والدروشة، بل هو رجل صلب وشجاع.
لقد كان كادرا مؤهلا بشكل عال جدا ثقافيا وسياسيا: مراسا، ووعيا، تعاطيا وسجالا.
لقد كان يخدم تلك المزايا ويسندها انتماء واثق لخلفية اجتماعية مرموقة، مع العطاء الذاتي لشخصيته المستوعبة لثنايا الواقع السياسي للبلد وتباينات تضاريس المجتمع الأهلي، مع إضافات أخرى يتمتع بها الفقيد؛ من قبيل المسحة الأخلاقية، القرب والمجاملة، والبشر الدائم، وحتى روح الدعابة.
مع انتهاء تأسيس حزب حاتم وابتعادي عن يوميات تسييره، لأني حرصت بصرامة على عدم احتلال أي مركز في هياكله، صار تواصلي مع المرحوم مولاي متقطعا، بل متباعدا مع دوام الود.
ومع ذلك فقد كان رصدي من بعيد لمساره العام يشي بالتقدير الواضح، الذي يحظى به في سياقه الخاص ومحيطه.
وذاك شيء لم يفاجئني البتة، لِما كنت قد عرفت منه وفيه من خصال مؤهلة، وإن كانت طبيعة المنحى التصاعدي العام لذلك المسار تبدو بوضوح أمرا لافتا على كل حال.
في الختام هناك حقيقة – وهي لعمري أمر مؤسف – أن قيمة الأفراد لا تظهر لدى غيرهم بكل أبعادها، وكذلك الإحساس بقربهم من الوجدان إلا مع رحيلهم، والذي تزداد وطأته عندما يحصل بشكل فجائي كمثل حالته.
صحيح أن (الموت يعتام الكرام)، لكنه مع ذلك سيمسح الطاولة من الجميع، فلا عزاء لباق ولو إلى حين، فاللهم لطفك بما جرى وستجري به المقادير.
ولأخي مولاي أدعو: اللهم ربي وسيدي ومولاي، إن عبدك مولاي قد نزل ببابك، فأكرم نزله، واكتبه في عليين مع الصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا وارحمنا ربنا إذا ما صرنا إلى ما صار إليه.
السلام عليكم.
محمد ولد شيخنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى