مقالات

في مهنة المتاعب (26)

محمدُّ سالم ابن جدُّ

مرة تأخرت التعويضات شهرين أو ثلاثة عن المتعاونين مع المؤسسة المتقدم ذكرها، ثم زفت البشرى بأن النقود قادمة وأن كل ذي حق سينال حقه في اليوم الفلاني. وفي اليوم الموعود جئت المؤسسة فوقفت في طابور ممتد أمام مكتب المحاسب، وجاءت زميلة فآثرتها بمكاني وتأخرت، وفعلت الشيء نفسه مع اثنتين أخريين أو ثلاث.
دارت عجلة الحساب بعد ارتفاع النهار وواصل الطابور زحفه ببطء إلى أن وصلت إلى شباك المحاسب حوالي الثانية ظهرا وحين أطللت عليه نظر إلي مبتسما وقال: نفدت النقود الآن، عودوا غدا.. وأغلق النافذة الصغيرة.
لم أدر أأعجب من ابتسامة الرجل التي لم يقابلني بها قبل ذلك، أم من سوء حظي، أم من جريان الأقدار؛ فكل اللواتي آثرتهن نلن حقوقهن بينما استمررت في التأخر لعدم نصيب لي – في نفس الأمر- في نقود ذلك اليوم!
تحسست جيبي فإذا فيه 20 أوقية لا غير. مبلغ كاف لإيصالي إلى حيث أريد بأسعار تلك الأيام. صليت الظهر وخرجت متجها إلى الشارع الذي تسلكه وسائل النقل الحضري فوجدت عليه حوالي خمس زميلات – من بينهن اللاتي ذكرت شأني معهن- مستعدات للركوب إلى وجهتي بالذات! خطر في نفسي العدول إلى ناحية أخرى وتركهن وشأنهن تجنبا للحرج؛ خصوصا وأنهن نلن النقد منذ قليل، لكن لم أرض ذلك، وإنما وقفت معهن في عين المكان.
ركبنا باصا فنزلت الأولى فأشعرت المحصل بأن أجرة ركوبها علي، وكذلك فعلت مع البواقي، اللواتي لم أستطع النزول قبلهن حتى لا يبين المستور، وحين خرجت أخراهن علمت أني خرجت من الأزمة الصغرى بأزمة كبرى فبقيت مفكرا في مخرج، بينما واصل الباص سيره (ولم يكن محصلو الباصات مهذبين) حتى استدار عند وقفة السبخة والميناء تأهبا للعودة شمالا. وقف أمام متجر فنزلت بسرعة وولجت المتجر – والمحصل معي كظلي- ففككت ساعة يدي وطلبت ممن به المبلغ المستحق علي وتركها لديه ريثما أعيده إليه، ففعل – جزاه الله خير- وسلمت الشاب حقه فاستطعت الذهاب إلى حال سبيلي، وأنا كمن استيقظ من كابوس.
بعدها علمت أن من المحرمات الخُلُقية ركوب وسائل النقل على من لا يملك أكثر من أجرة نفسه، وقد أفادني ذلك كثيرا وإن لم ينج حذر من قدر؛ فكنت ربما وقعت في مواقف غير مريحة في وسائل النقل من آن لآخر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى