من الانتقادات التي وُجِّهَتْ لفيلم “ذهب مع الريح”، المقتبَس من روايةٍ بنفس العنوان للكاتبة الأميركية “مارغريت ميتشل”، أنه صَوَّرَ العبيدَ وكأنهم سُعداء في منازل أسيادهم، وأظهر وجها آخر “مشرقا وجميلا” لعلاقتهم بهم!
من شخصيات الرواية (الفيلم) “مَامِي”، الزنجية السوداء المتفانية في حبها وإخلاصها لأسيادها آل “أوهارا”، ومع ذلك فهي لا تختلف عنهم في “سلوكها وكبريائها وأخلاقها، بل ربما تزيد عليهم”!.
وفي أسلوب ساحر تصورها الكاتبة راعيةً للقيم والأخلاق والتقاليد، حين تسألُ ابنةَ أسيادها “سكارلت أوهارا” عن صديقيْها التوأمين: “هل ذهب الشابان؟ لماذا لم تبقيهما للعَشاء؟ أين أخلاقُكِ وتربيتك”؟
وفي مشهد آخر تلح عليها – وهي تستعد للذّهاب إلى حفلة الجيران – أن بنات “آل أوهارا” “يجب أن يكن ممتلئات بالطعام قبل ذهابهن إلى أية حفلة، حتى يعجزن عن تناول المرطبات هناك.. وحين ترفض “سكارلت” تقول “مامي” برقّة: “إذا كنت لا تهتمين بما يقوله الناس عن هذه العائلة؛ فأنا أهتم”!
أما والد العائلة “جيرالد أوهارا” فـ”مع أنه كان يبدو عصبي المزاج، ذا مظهر قَاسٍ، إلا أنه كان يحمل بين جنبيه قلبا رقيقا؛ لا يتحمل رؤية عبد يتعرض للضرب”.
وتصف الكاتبة صوتَ “إيلين أوهارا” – والدة العائلة – بأنه “صوتٌ ناعم.. لم يرتفع يوما لإعطاء الأوامر لخادم أو لتوبيخ طفل، لكنه كان صوتا يلقى الطاعة في مزرعة تارا”..
وربما غاب عن المنتقِدين أن الكاتبة أَبْدَت هنا الوجهَ الْمُشْرِقَ للعلاقة بين الطرفين، فقد أُشْبِعَ الوجهُ القبيح حديثا حتى نسي الناسُ أو تناسوا الوجه الآخر، وهي فضلا عن ذلك لا تزعم أن تلك العلاقةَ هي العلاقة السائدة، بل إن وجودها في بيت آل “أوهارا” يمثل الاستثناءَ الذي يؤكد القاعدة، لكن من حق هذا “الاستثناء” أن لا يُوأَدَ في غَيَاهِبِ النِّسْيَانِ والتجاهل!
يرى بعضُ مَن شاركني قراءةَ هذه الرواية الممتعة أن مجتمعَنا القديم شهد علاقةً بين العبيد والأسياد شبيهة بالعلاقة المذكورة، لكنها لم تجد من يُوَثِّقُهَا ويصفها كما فعلتْ “مارغريت ميتشل”!
والواقع أنه يصعب إِبْدَاءُ الوجه الإيجابي لتلك العلاقة في ظل أجواء الإدانة السائدة لهذه الممارسة المقيتة، غيرَ أن الحديث عنها ليس سوى نوع من “التوثيق التاريخي”؛ يُنْصِفُ – بعض الإنصاف – قومًا قَدِمُوا إلى ما قَدَّمُوا، ويؤسس لتعايشٍ وانسجام نرجوه بين فئات هذا الشعب الكريم.
ولست أحتاج التأكيدَ على أنني أتحدث عن حقبةٍ تاريخية مضت بما لها وما عليها.. وأننا الآن نطمح إلى نوع آخر من العلاقة بيننا وبين شركائنا في الوطن وإخوتنا في الدين.
في مقال الأمس كتبتُ أن النائب السابق سيدي محمد ﭼـارا دعا الدولةَ إلى تأسيس متحف يُعَرِّفُ بأنماط الرِّقِّ التي كانت شائعة في مجتمعنا، معتبرا أن محاربةَ ظاهرةٍ ما تقتضي معرفتَها، والوقوفَ على طرائق ممارستها.
وما قاله النائب وجيه في رأيي، بعد أن قَصَّرَ الأدب والبحث العلمي في الاضطلاع بهذه المهمة.
لكنني أعتقد أن هذا المتحف – إن وُجِدَ – لن يؤديَ الغايةَ المرجوة منه إلا إذا نقل أبعاد الصورة كلها بأمانةٍ وحِياد، فإذا نقل بشاعة الاسترقاق، وظلم المسترَقِّين الفادح، فلينقل دَوْرَ العلماء في الدفاع عن الفئات المستضعفة، وبَذْلِ جاههم ومَالِهِمْ في افْتِكَاكِهَا من أيدي الظَّلَمَةِ.
ولينقل قصصا مثلَ قصةِ ذلك الفقيه الجليل؛ الذي ارتفع بكاؤه كطفل صغير وسطَ الحي؛ حين ضرب أحد الأسياد أَمَةً مسكينةً، فاجتمع الناس مرتاعين، ولم يتكرر ذلك أبدا في حضوره..
ولْيُوَثِّقْ حِرْصَ بعض الأسياد على تعليمِ عبيدهم وتحفيظهم القرآنَ، حتى برز منهم من شارطه أسيادُه على تحفيظ أبنائهم القرآنَ مقابلَ حريته، فَوَفَى بشرطه ونال حريتَه!
وَلْيَرْوِ حكاية ذلك السيد الحنون؛ الذي كان الحزن يتملكه إذا لم يسمع “بَنْـﭼَـه والمدح”، فيقول في لوعة: لعل الجوع أقعدهم عن ذلك!
ليس من الممكن مَحْوُ الذاكرة الثقافية والتاريخية، وليس ذلك مطلوبا، لكن ليس من الإنصاف استرجاع بعضها دون بعض!