أُتِيحَ لي، قبل أشهر، الاطِّلَاعُ على أسعار طباعة الكتب لدى ناشر أجنبي، تَرَبَّعَ على سوق النشر في بلادنا، وطبع أكثر من مائتي كتاب وبحث موريتاني وفق أفضل المعايير: تنسيقا، وَوَرَقًا، وتجليدا، وقد فاجأتني رَخَاصَةُ أسعاره، وكنت قبل ذلك صادفت طائفةً من منشورات وزارة الثقافة، ووقفت على أسعارها، فعرفت أننا جمعنا في طباعتها بين سيئتي: غلاء الأسعار ونقص الجودة!
ويبدو أن الأجهزة الرقابية عندنا تحصر الرقابة – أحيانا كثيرة – في احترام المساطر التي يجب أن تمر بها الصفقات، والتأشيرات التي ينبغي أن توضع على وثائقها، ولا تُعِيرُ اهتماما لجودة المنتج، وعدم ارتفاع تكلفته، وأحيانا لعدم جدوائيته، فَيَتَسَرَّبُ بسبب ذلك مال كثير.
والواقع أن الفساد أَحَدُ أمراضنا المزمنة، التي لا يُؤْذِنُ ظلامها بِانْجِلَاء، ورغم وجود الأجهزة الرقابية والنصوص القانونية المجرِّمة للفساد؛ فإن نهب المال العام يستمر منذ عقود طويلة..
إن تعدد آليات الرقابة عندنا لا يعني فاعليتها، فأجهزتها التنفيذية (المفتشية العامة للدولة والأجهزة الرقابية الأخرى) تُتَّهَمُ غالبا بأن “حملات كشف الفساد”، التي تقودها من حين لآخر، موسمية قاصرة، والرقابة البرلمانية كانت مفقودة إلى وقت قريب، والتحقيق الوحيد الذي قامت به في تاريخها ما يزال محل رِيبة وتشكيك، أما الرقابة القضائية فتعاني من تَبَعِيتها للأجهزة التنفيذية، وعدم قدرتها على مباشرة التحقيقات بصفة مستقلة!
لا يمكن تفعيل رقابةِ الأجهزة التنفيذية إلا بأن يسير عملُها بصفة دائمة ومنتظمة، ولا رقابةِ البرلمان إلا بتمكينه من صلاحياته، وتكوين أعضائه تكوينا محكما على فنيات الرقابة، ولا رقابةِ القضاء إلا بضمان استقلاله عن السلطة التنفيذية استقلالا حقيقيا.
لكن المقاربة الجديدة، التي أثبتت نجاعتها في محاربة الفساد في بلدان أخرى، هي مساهمة الرأي العام: صحافةً وأحزابًا سياسية ومجتمعا مدنيا في رقابة الفساد وكشفه، ومن مزايا هذه الرقابة أنها تضع جودةَ الخِدمات وتكلفتها وجدوائيتها في الحسبان.
من العجيب حقا أن المال العام، رغم أنه مصدرُ الخِدْمات العامة التي تُقَدَّمُ للمواطنين، لا يجد من اهتمام الرأي العام ما تجده الخِدْماتُ نفسُها.
وعندما ننظر إلى جيراننا، شمالا وجنوبا، نرى الدور الكبير الذي يضطلع به الرأي العام في فضح الفساد والمفسدين، فأين يَكْمُنُ الخلل عندنا تحديدا؟