الذهب.. البحث عن الحقيقة (تحقيق مصور)
أعده: أحمد سالم ولد باب
نُشِرَ في إبريل 2017
كان من أهداف هذا التحقيق إخبار الناس بحقيقة الذهب، في وقت انتشرت فيه الشائعات والتزمت الحكومةُ الصمتَ..
ورغم انتشار فيديوهات كثيرة عن التنقيب، وتصريحات مدير المعادن للوكالة الرسمية، وصدور القانون المنظم للتنقيب الفردي، إلا أن ذلك لم يُخْرِجْ الرأيَ العام من ظلام الشائعات.. فلا أحد – حتى الآن – يستطيع الجزمَ بالكميات التي يحصل عليها المنقبون..
بل إن إحدى النتائج التي توصل إليها تحقيقنا هذا؛ أن الازدحام على حوانيت الأجهزة الكاشفة عن الذهب، والإقبال على شركات تأجير السيارات العابرة للصحراء ليس مؤشرا كافيا على جدوائية التنقيب!
ولكي نخبر الناس بالحقيقة، فقد التزمنا – هنا – أن نحدثهم بما رأيناه فقط دون ما سمعناه..
خيطنا الأول كان “عبد الرحمن”، وهو منقب التقته “مراسلون” وقص عليها تجربته مع التنقيب عن الذهب: البداية كانت رحلة مع مواطن يمني يدعى “جمال” إلى “إينشيري” للبحث عن أحجار النيازك والصاعقة قبل سبعة أشهر..
لماذا تبحثون عن أحجار النيازك والصاعقة؟
يجيب عبد الرحمن: أما أحجار النيازك فلأنها غالية جدا، فغرامات قليلة منها قد يناهز سعرها 1500 دولار كما أخبرني “جمال” اليمني.
وأما أحجار الصاعقة فلدى صديقي “جمال” اعتقادٌ راسخ بأن الصاعقة لا تسقط إلا على ما هو ثمين: ألماس، ذهب… ويؤكد دائما: نَقِّبْ حيث سقطت الصاعقة فستحصل على صيد ثمين..
رحلة البحث عن أحجار النيازك والصاعقة قادت عبد الرحمن وصديقه اليمني إلى العثور على أحجار صفراء لامعة بالقرب من مجال تنقيب تازيازت، وقد عاينتها “مراسلون” والتقطت صورا لها..
عززت صفرةُ الحجارة ولمعانُها لديهم فرضيةَ احتوائها على الذهب..
ذهبوا بها إلى صائغ تقليدي فأخبرهم أنه يستطيع الكشف عن نسبة الذهب الموجودة فيها مقابل 50000 أوقية، لكنهم تراجعوا في اللحظة الأخيرة خشية أن يكون محتالا..
بعث إليهم صديقٌ في الولايات المتحدة الأميركية محلولا كيميائيا يسمى Au Test Saggio ORO (انظر الصور) يصل سعر قنينة صغيرة منه 100 دولار، حسبما أخبرنا عبد الرحمن.
وطريقة الكشف عن طريق هذا المحلول، أن يتم حَكُّ الحجر محل الاختبار على حجر التيمم الأسود “المعرظ”، ثم صب قطرات من المحلول الكيميائي على موضع الحك، فإذا تلاشى أثره فهذا يعني أن النتيجة سلبية، وإذا اصفر المكان فالنتيجة إيجابية.
لكن المحلول الكيميائي يستطيع فقط تأكيد احتواء الحجر على الذهب، وليس باستطاعته تقدير نسبته الدقيقة..
أخيرا، أرسل جمال – عن طريق البريد السريع DHL – عَيَّنَةً صغيرة من هذه الحجارة إلى شخص من أهل الاختصاص يعرفه في السعودية، أظهر الاختبار أن نسبة الذهب ضئيلة وغير مشجعة..
يقول عبد الرحمن إنه لقي ليبيين رغبوا في الاستثمار في هذا النوع من التنقيب، وتكرر اسم السودانيين في حديثه إلينا، بصفتهم أقدر الناس على استخلاص الذهب من حجارته بِأَخَفِّ الْمُؤَن.
في سوق الصاغة..
تماما كما قال الخارجي: “أردتُ عَمْرًا وأراد اللهُ خارجةَ”.. لكنني كنت أوفر حظا منه.. ذلك ما حصل لي مساء العاشر من أبريل الجاري..
دخلت سوق الصاغة بالسوق المعروف بـ”مرصت لحموم” أبحث عن بائع ذهب يدعى “الزين” دلني عليه أحد الأصدقاء، فوقعت على آخر يدعى “الزين ولد ببكر المولود”، يقع حانوته في الركن الشمالي الشرقي لمدخل سوق الصاغة..
لم أكن أطمع إلا في معلومات شفوية عن ذهب تازيازت المزعوم، لكن ما حصل هو أنني حضرت عملية بيعِ قطعٍ منه، وصورت العملية في فيديو تنشره “مراسلون” مع هذا التحقيق!
دخلت الحانوت الضيق في نفس اللحظة مع رجل يرتدي لثاما أغبر، عرض على “الزين” لفافة بيضاء تحوي قطعا معدنية صفراء، وَزَنَهَا البائع فألفاها 12.5 غراما، وبعد أخذٍ ورَدٍّ اتفقا على 130400 أوقية ثمنا لها..
قبل أن يخرج الزين لِيُحْضِرَ النقود للرجل، سألني عن مهمتي فأخبرته، ابتسم قائلا: لستُ الزين الذي تقصد.. لكن بغيتك لدي! هذا الرجل قادم للتو من تازيازت، وهذه القطع من هناك.. يمكنك تصويرها والتقاط فيديو لها..
هل هذه المصادفة العجيبة مؤشر على كثرة الباعة القادمين من تازيازت؟
أخبرني الزين أن نفسَ البائع باعه قبل نحو ثلاثة أسابيع 285 غراما من الذهب بـ 3140000 أوقية.
سألته: هل السعر هو نفس السعر السائد في السوق؟
يجيب: نراعي عادة هامش نقصان الوزن بسبب الشوائب، لكنه هامش قليل على كل حال.
-كم استخلصتَ من الكمية السابقة من الذهب؟
-الكمية السابقة تساوي 285 غراما، نقصت بـ 6 غرامات فقط، وهذا ما يعادل نسبة 97.89 في المائة.
-هل تعتقد أن كميات الذهب كبيرة؟
يصر الزين على أن الكميات كبيرة.. لكن “مراسلون” لم تقابل – رغم طول البحث – من حصل على أكثر من الـ 12 غراما التي حضرنا عملية بيعها.
يعتقد الزين، استنادا إلى المعطيات المتوفرة لديه، أن سيولا جرارة غمرت المنطقة في وقت من الأوقات، وحملت معها كميات من الذهب جرفتها من مرتفعات بعيدة.. ومن دلائل ذلك لديه أن الشوائب في الكميات التي عاينها قليلة، وهو ما يعني أنها تعرضت لعوامل التعرية (الماء، الرياح، النحت…)..
في زحمة حوانيت الأجهزة..
جرت زيارة حوانيت باعة الأجهزة الكاشفة بسلاسة على عكس ما توقعنا، رغم أنها حدثت في أيام صعبة على هؤلاء التجار..
استقبلنا عراقي شاب يدعى محمد الهادي، تقول تحرياتنا إنه ينتمي إلى أسرة ثرية تقيم بدبي، وتملك مؤسسة “ديبار”..
شدد العراقي الهادي على نقطتين في حديثه إلينا: احترام شركته للقوانين الموريتانية، وتحذيره من انخداع الناس بالأجهزة المقلدة، حيث يقول إن الأجهزة الصينية اكتسحت السوق..
إلى جانب محمد الهادي يقف سوداني يدعى متوكل، وموريتاني يدعى السالك ولد عبد الله، وهو مرشد سياحي سابق، قاده البحث عن العمل إلى استجلاب هذه الشركة، التي فتحت محلاتها قبل الجميع..
في ذلك الوقت كانت عشرات الأجهزة صودرت من محلات ديبار والمحلات المجاورة لها، كما صادر الدرك 50 جهازا عند نقطة العبور (العبّارة) في روصو، وأكثر من هذا العدد في مطار نواكشوط..
بعد ذلك قررت الدولة فرض رسوم جديدة على هذه الأجهزة تبلغ 300000 أوقية للواحد، تُمنح مقابلَها بطاقةٌ رمادية..
سكان محليون يرجون أن يكون “الذهب” بردا وسلاما على المنطقة..
أما الساكنة المحلية فترجو أن يكون الموضوع نعمة لا نقمة، وتتطلع إلى احترام مزارات تاريخية، مثل مرتفع “الدواس”، الذي استشهد في حضنه ستة من قادة أولاد ادليم، دخلوا معركة مع المستعمر في عام 1923، ومثل مزار “انتالفه” الذي يرقد فيه الرجل الصالح “أبهنضام” جد بعض قبائل المنطقة..
يقول محمد سعيد ولد بوسيف، وهو نائب رئيس مجتمع تازيازت، إن الساكنة المحلية يجب أن تكون أولَ مستفيد من رخص التنقيب، كما ينبغي أن تستفيد من مشاريع تساعد السكان على البقاء، مثل حفر الآبار الارتوازية وبناء المدارس والمنشآت السياحية، فضلا عن توفير الأمن..
ويقول ولد بوسيف إن معظم السكان لا يعرفون انتماءهم المقاطعي حتى الآن، هل هو إلى “الشامي” أم إلى “أكجوجت”..
تجدر الإشارة إلى أنه كان للسكان المحليين الدور الأبرز في إطلاع الدرك على حالات التنقيب، حيث ظنوها أولا تحركات لسلفيين قبل أن يتضح الأمر في النهاية..
مستفيدون وشركاء..
لا تقتصر الاستفادة في هذه العملية على الأطراف السابقة: الصاغة، باعة الأجهزة والمنقبون، بل يبدو أن أطرافا أخرى دخلت على الخط، فقد أخبرنا الزين أن سمسارا آخر هو من جلب له البائع لقاء عمولة متفق عليها..
وقابلت “مراسلون” خلال الأسبوع الجاري صاحب وكالة لتأجير السيارات العابرة للصحراء يخرج من مكتبه، والحماس والسرور يغمرانه، فقد ارتفعت الأجرة اليومية لهذه السيارات إلى 40000 أوقية، بعد أن ارتفع الطلب عليها من قِبَلِ المنقبين عن الذهب.
وبلغت أجرة العامل اليدوي الذي يكلف بالحفر والطبخ وإعداد الشاي 10000 أوقية يوميا..
هل هذه مؤشرات كافية على أن جدوى التنقيب كبيرة، وعلى أن من تجشم العناءَ سيعوض أتعابه؟
يؤكد “عبد الله” – وهو موريتاني عاش طويلا في إفريقيا – لـ”مراسلون” أن تجارب التنقيب عن الألماس في سيراليون وليبيريا علمته أن الأمر لا يعدو أن يكون مغامرة؛ قد ينفق فيها الإنسان مالا عريضا ثم لا يخرج بطائل..
ويضيف قائلا: أعرف شخصيا من قضى 36 عاما من سِنِي عمره في التنقيب عن الألماس هناك، ولم يظفر بما يعوض هذا التعب..
لا يجد عبد الله تفسيرا لتهافت مئات الشباب نحو مغامرة كهذه؛ غير مضمونة العواقب سوى أن للذهب شيطانه وسحره..
لكنني فهمتُ بسهولة أن لهذا التفسير الغيبي نظيرا واقعيا يسمى “الأمل”!
وظهر المقرر الوزاري..
فقط يوم الخميس الماضي ظهر المقرر الوزاري الذي يتيح فرصة التنقيب السطحي بطريقة قانونية، ويتكون المقرر من صفحتين، تحويان 5 مواد، تنص على أن من يحق لهم التنقيب هم الموريتانيون فقط، وأن عليهم مقابل ذلك دفع مبلغ 100000 أوقية تدفع عن طريق شيك باسم الخازن العام، وتحظر التنقيب بالمناطق المرخصة لشركات دولية، كما تحظر الحفر بالآلات الكبيرة واستخدام المواد الكيميائية..
سؤال أخير موجه إلى تازيازت.. هل كانت الشركة، التي استخرجت آلاف الأطنان من باطن أرضٍ يبدو سطحُها غنيا بالذهب، تخادع الدولة والشعب؟ أم أن باطن الأرض أفقر من سطحها كما يقولون؟ وإلى أي درجة سيضايق المنقبون عمل هذه الشركة واستثماراتها كما يزعم البعض؟