ضاعت سلطة الفتوى، وقَلَّت الثقة بالعلماء، وتسرب الإلحاد إلى الشباب، منذ أن دار الحوار الآتي بين مراقبٍ مالي، في عهد الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع، كُلِّفَ بإعداد تقرير محاسبي عن اختلالاتٍ شَابَتْ تَسْيِيرَ مؤسسة أو إدارةٍ يَلِيهَا فقيهٌ مشهور.
أَتَمَّ المراقب تقريرَه، ودهش من حجم الخلل الفاحش في التسيير، والرقم الفلكي للاختلاس، فسأل الفقيهَ مُرَدِّدًا نظره بين لحيته الوقور وعمامته المهيبة:
– من أين لك هذا؟
– أَأَنْتَ جَادٌّ في سؤالك؟!
– طبعا!
– هل ستقنع بجوابي؟
– أرجو ذلك
– اعْطَاهْ لِي مُولَانَ! (أعطانيه الله).
ترك اعتزالُ أكثر العلماء الموريتانيين للدولة الناشئة فراغا، ملأته باستمداد الدستور والقوانين من مستعمِرها السابق، وتنظيم العمران والحضارة على النهج الغربي، لذلك نشأت مستغنيةً عنهم، ولم يكن لهم دور يذكر في قيامها وتطورها.
لكن تقصيرَ أولئك الأوائل يبقى محدودَ الأثر إذا قيس بما ارتكبه في حَقِّهَا بعضُ خَلَفِهِمْ، الذين جعلوا منها بقرة حلوبا، يتوسلون إلى رَيْعِهَا بكل وسيلة، يركبون في طِلَابِهِ الصَّعْبَ والذَّلُول، ويَلْوُونَ في سبيله أعناق النصوص، فتجاوزوا حَدَّ الجرأة، إلى أن جعل بعضهم من الرشاوى التي يبذلها المسؤولون “عطايا سلطانية”!
لقد كان علماءُ فجر الاستقلال، رغم اعتزالهم وهروبهم، أكثرَ فهما لطبيعة المال العام، وخطر الاجتراء عليه ممن خَلَفُوهُمْ، كما تُبَيِّنُهُ الرسالة التي بعث بها العلامة المختار بن ابلول إلى وزير العدل في حكومة الاستقلال الأولى، وكان الوزير قد أرسل إليه بهدية، فَرَدَّهَا قائلا: “لاحظتُ أني لم أقدم خدمة للشعب أَسْتَحِلُّ بها الأخذَ من ماله العام؛ لأن ما أسلفت من خدمةٍ في تعليم أبنائه، وفَصْلِ قضاياه بالصلح والفتيا والنصيحة، لم أقصد به إلا وجه الله تعالى، إذن فلا يجوز لي الأخذ عليه، والآن حبسني المرض وضعف الكِبَرِ، وإذا كان الزعيم “كلفن البرتستانتي”* في “سويسرة” يتورع من أخذ مرتبه أيام انقطاع خدمته بسبب المرض، فالمسلم بذلك أولى، فشأن الرجال الصدق مع الله في المعاملة، والصدق مع خلقه كذلك، لا الميل بسبب الهوى والحظوظ النفسانية والمحاباة بما لا يرضي الله تبارك وتعالى، وهذا هو السبب في رَدِّي للمبلغ…”.
كان العلماء على امتداد تاريخ الإسلام يكتسبون وِلايتهم وسلطتهم على الأمة بطريقين: إما بإسنادها إليهم من السلطة السياسية، أو من جماعة المسلمين في حال انعدام السلطة، وإما بثبوت صفات الكمال التي تجعلهم مَحَلَّ اقتداءِ الأمة.
ولم يَنَلْ العلماء في هذه البلاد، منذ عهد المرابطين، ولايةَ وقيادةَ الشأن العام غالبا إلا بالطريق الثاني، فكان الناس يُقْبِلُونَ من تلقاء أنفسهم على كل مَن اشتهر بالعلم والورع وإتقان الفتيا والتعليم، يستفتونه في أمور دينهم، ويحتكمون إليه في شؤون دنياهم، فاستقامت بذلك أمورهم، واستجلبوا المصالح، ودَفعوا المفاسد، وقد قيل: لا يزال الناس بخير ما صلحت لهم هُداتهم وهم العلماء، وأئمتهم وهم الأمراء، وبقياس العكس فإن فسادهم إنما يأتي من جهة هؤلاء، كما قال عبد الله بن المبارك:
وهل أَفْسَدَ الدينَ إلا الملوكُ ** وأَحْبَارُ سُوءٍ ورهبانُها
ولا شك أن لفساد العلماء اليوم دورا فيما نراه من فساد المجتمع والدولة ومؤسساتها ورجالها، بل فيما نشهده من انتهاكٍ لحرمة الدين نفسه، والجرأة على شرائعه وشعائره!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المقصود جان كالفن؛ أحد رجال حركة الإصلاح البروتستانتي في أوروبا.