صلى الله وسلم وبارك على الأزهر لونا، الأدعج عينا، الربعة قامة، الأجمل ذاتا، الأكمل قدرا..
رحمة ربه المهداة، ونعمته السابغة المسداة..
من لا تفي العبارة بمدحه ولا يحيط اللفظ بوصفه.
آمنا به وصدّقناه، وفديناه ومدحناه..
ونشهد أنه الصادق في وعده، الأمين في تبليغه، الهادي إلى الجنة، الدالّ على رضوان الله عزّ وجلّ..
فيا سيدي وسيد ولد آدم أهديك سلام الروح من صميمها، مقرونا بتبجيلها وتعظيمها، مرفوعا لمقامك العالي الرفيع، يا أكرم واسطة، وأيمن شفيع.
والله نسأل أن نُسقى من حوضك المورود وكوثرك الفياض، بعد عمر في الطاعة طويل..
وبعدُ أيها الأعزاء:
فإنّ الكوثر: نهر في الجنة يتشعب منه جميع أنهارها وهو للنبي، صلى الله عليه وسلم، خاصة.
وفي حديث مجاهد: أعطيت الكوثر، وهو نهر في الجنة، وهو فوعل من الكثرة والواو زائدة، ومعناه الخير الكثير. كما في لسان العرب.
وقد طلبتُ مزيد البيان من الإمام القرطبي فشفى لي الغليل وقال: (والكوْثر: فوعل من الكثرة ؛ مِثل النّوفل من النّفل، والجوهر من الجهر. والعَرب تُسمِّي كُلّ شيء كثير فِي العدَد والقدر والخطر كوثرًا .
قال سُفيَان: قيل لعجوز رجع اِبنها من السَّفر : بم آبَ اِبْنك ؟ قالت بكوثَر؛ أَي بمالٍ كثير . والكوثر من الرِّجال : السّيِّد الكثير الْخَيْر . والكوثر : العدَد الكثير من الأَصحاب والأشيَاع.
واختلف أهل التّأويل في الكوثر الّذي أُعطِيه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على ستّة عشرَ قولًا: الأوَّل: أنّه نهَر في الجنَّة ؛ رواهُ البخارِيّ عن أنس والتّرمذِيّ أَيضًا . وروى التِّرْمذيّ أَيضًا عن اِبن عُمر قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ( الكوثَر : نهر في الجنَّة، حافّتاهُ من ذهب، ومجراهُ على الدّرّ والياقوت، تُربَته أطيب من المسك، وماؤهُ أحلى من العسل وأبيَض من الثَّلج) . هذَا حدِيث حَسن صَحِيح . الثّاني: أَنّه حوْض النّبيّ صلَّى الله عليه وسلّم في الموقف قاله عطاء . وفي صحيح مسلم عن أنس قال : بينَما نحنُ عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم إِذ أغفَى إِغفاءَة، ثُمّ رفع رأْسه مُتبسِّمًا فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : نزلت عليّ آنفا سُورَة فقرأَ بسم الله الرّحمن الرّحيم : ” إِنّا أَعطيناك الكوثر . فصلِّ لربِّك وانْحرْ . إِنّ شانِئك هُوَ الْأَبْتَر ” ثُمَّ قال أَتدرُون ما الكوثَر ؟ . قُلنا الله ورسُوله أَعلم. قال : فإِنّه نهَر وعدنيهِ ربِّي عزَّ وجلَّ، عليه خيْر كثير هُو حوض ترِد عليه أُمَّتي يوم القيامة آنيته عدَد النّجوم، فيُخْتلج العبد منهمْ فأَقول إِنّه من أُمَّتي، فيُقال إِنّك لا تدرِي ما أَحدثَ بَعدك. ثُمَّ يجُوز أن يُسمَّى ذلكَ النَّهَر أَو الحوض كوثرًا، لِكثرَةِ الواردة والشَّاربة من أُمّة مُحمَّد علَيه السَّلَام هُناكَ . ويُسمَّى به لِما فيه من الخير الكثير والماء الكثِير . الثَّالِث : أَنّ الكوثَر النّبُوّة والكتاب: قاله عكْرِمة . الرَّابِع : الْقرْآن ؛ قَاله الحسَن . الخامس : الإِسْلَام ؛ حكاه المغيرة . السّادس : تيسِير القُرآن وتخفيف الشَّرائِع؛ قاله الحسين بن الفضْل . السّابع : هُو كثرَة الأصحاب والأُمّة والأشيَاع؛ قاله أَبو بكر بن عيّاش ويمان بن رئاب . الثّامن : أَنّه الإيثار؛ قالَه اِبن كيسان . التّاسع : أَنّه رفعَة الذِّكر . حكاهُ الماوَرديّ . الْعَاشِر : أنّه نورٌ في قلبك دلّك عليّ، وقطعك عمّا سواي . وعنه: هُو الشّفاعة؛ وهُو الحادي عشرَ . وقيل : معجزات الرّبّ هُدي بِها أَهل الإجابة لدعوتِك؛ حكاهُ الثَّعلبيّ، وهُو الثّاني عشرَ . الثَّالِث عشرَ : قال هلال بن يسَاف : هُو لا إِله إِلّا الله مُحمَّد رسُول الله . وقيلَ : الفقه في الدِّين .وقيلَ : الصّلَوات الخمس؛ وهُما الرّابع عشرَ والخامس عشرَ . وقالَ اِبْن إِسْحَاق : هُو العظيم مِن الأَمْر؛ وذَكرَ بيت لبيد :
وصاحِب ملحوب فُجعنَا بِفقْدهِ ** وعِنْد الرَّداع بَيْت آخَر كَوْثَر
أَي عَظِيم .
قُلْت : أَصَحّ هَذه الأَقوال الأَوَّل والثَّانِي ؛ لأَنّه ثابِت عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نَصّ في الْكَوْثَر .
وسمِع أَنس قومًا يتذاكرُونَ الْحَوْض فقالَ : ما كُنْت أَرى أن أَعيش حتَّى أَرى أَمثالكمْ يتمارون في الحوض، لقد ترَكتُ عجائز خلْفي، ما تُصلِّي اِمرأَة منْهنّ إِلّا سأَلت الله أَن يَسقيهَا من حوض النّبيّ صلَّى الله عليه وسلّم . وفي حوضه يقُول الشّاعر :
يَا صَاحِب الْحَوْض مَنْ يُدَانِيكَا ** وَأَنْتَ حَقًّا حَبِيب بَارِيكَا.
وجميع ما قيل بعد ذلِك في تفْسيره قد أُعطِيه رَسُول الله صلَّى الله عليه وسلّمَ زِيادَة على حَوضه، صلّى الله عليه وسلمَ تسليمًا كثيرًا).
حوضُه مشتهى وكوثره الجا ** ري شفاءٌ للواردين الظماء
وله الحمد موقف ولواء ** تحته الأنبياء يوم الجزاء
ولَنعم الشفيع في الغد يُرجى ** ساعة الكرب واشتداد البلاء.