أصبح الجميع “سواءً في الهوى” فيما يتعلق برداءة النظام التعليمي: فَعَامُّهُ يواصل الانحدار، الذي بدأه قبل عقدين، ولا يبدو أنّ لِذلك الانحدار غاية حتى الآن، وخَاصُّهُ غَدَا باهظَ التكاليف، وهو مع ذلك ليس مضمون النتائج!
الأخطر من ذلك أن تَرَدِّي التعليم، الذي قَسَّمَهُ إلى عام وخاص، أَفْقَدَنَا سَبَبًا قويا من أسباب اللُّحْمَةِ الاجتماعية، فصار التعليم مظهرا من مظاهر التفرقة، حين لم تعد الناشئة – بمختلف ألوانها وأعراقها – تجلس جنبا إلى جنب على طاولات الدرس كما كان الأمر في الماضي.
لا نملك إلا أن نُذَكِّرَ مُمَثِّلِي الولايات، الذين دعاهم وزير التهذيب الوطني قبل أيام، لحضور الأيام التشاورية الوطنية حول إصلاح التعليم منتصفَ الشهر الجاري، بأن إصلاح التعليم هو السبيل الأوحد لحل الأزمات التي نتخبط فيها دون استثناء: الفقر، والفساد الإداري والمالي، وتفكك النسيج الاجتماعي، والمخدرات، والتطرف…
ولن نتردد في أن نقول إن إصلاح التعليم يبدأ من تحسين الحالة المادية والمعنوية للمعلم.. هل نحتاج إلى دليل على ذلك؟ ها هو ذا:
كان المعلم، قبل عقدين ونَيِّفٍ فقط، يستطيع حفظَ أسماءِ فَصْلٍ من خمسين تلميذا في يومين، ويُمَيِّزُ خطوطهم بسهولة ويُسْر، ويعرف أنّ فلانا منهم يبسط التاء في غير مَحَلِّ بَسْطِهَا، ويضع الهمزة في غير موضعها!
ولم يكن معلم الأمس لِيَسْتَطِيعَ ذلك لولا أنه يعمل ثلاثة أيام في الأسبوع، لا يذهب في غيرها إلى مدرسة خاصة، ولا يمارس تجارة ولا زراعة.
أما معلمُ اليومِ فهو يعمل سبعة أيام في الأسبوع، لا يكاد يجلس منها يوما وإلا عَرَّضَ أسرته للجوع والضَّياع، ثم ينعكس هذا الجدول المشحون على أدائه، فهو لا يُمَيِّزُ من تلامذته إلا الأقوياءَ، ولا تمكنه متابعة واجباتِهم، ويعجز أحيانا عن تصحيح اختباراتهم!
إن التعليم مهنة فكرية تقتضي التَّفرغَ التام لها، ولا تتحمّل انشغالَ بَالِ صاحبها بِأَيِّ أَمْرٍ غيرِها، وأَيُّ سَعْيٍ جَادٍّ في إصلاحه ينبغي أن يضع في الحسبان تحسين الحالة المادية والمعنوية لأهم عنصر فيه، وهو المعلم، وإذا اعتقدنا أن ذلك مُكَلِّف فَلْنُجَرِّبِ الجهلَ، كما يُؤْثَرُ عن “ديريك بوك”، الرئيس السابق لجامعة “هارفارد”!