يستعد البرلمان الموريتاني، وهو في منتصف مأموريته السادسة، لِلِانتقال إلى مَبْنًى جديدٍ مقابلٍ لرئاسة الجمهورية، بعد مُضِيِّ أَشْهُرٍ قليلة على إطفاء شمعته الثلاثين.
فهل يكون “التقابلُ” الجديدُ، بين مَقَّرَّيْ السلطة التنفيذية والتشريعية، سَبَبًا لِوَقْفِ سِبَاحَة البرلمان في فَلَكِ الحكومة؟ وهل يقطع وشائجَ “التكامل” والإطراء والإشادة بينهما، لِيُحِلَّ محلَّها علائقَ “التقابل” والمساءلة والمحاسبة؟!
بدأت الولاية الأولى للبرلمان الحالي بعد إقرار دستور 20 يوليو 1991، وكانت مأموريته 4 سنوات فقط، زِيدَتْ بسنة واحدة في تعديل 2006 الدستوري.
ولست أدري إن كان انتخابُ البرلمان الأول بعد انتخاب الرئيس من حسن حظنا أم من سوئه؛ فمن المؤكد أن العكسَ أدعى إلى ضمان حرية الناخبين، وأجدر أن لا تؤثر إرادة الرئيس على حرية انتخاب البرلمان، ومما يُصَدِّقُ ذلك أن جميعَ الطيف السياسي تقريبا دخل قبةَ البرلمان في مأمورية 2006، وكان سبب ذلك أن الانتخابات التشريعية سبقت الانتخابات الرئاسية، ولذا كانت هذه المأمورية من أكثر مأموريات البرلمان تنوعا وحيوية.
لقد كان من الجيد أن نحصل على برلمان متنوع في بداية مسارنا الديمقراطي، رغم أنّ رأيا آخر – آنذاك – وَجَدَ أن “البدء بالرئاسيات أقربُ إلى الصواب، وأدنى إلى ضمان الأمن والاستقرار فيما يليها”، على حَدِّ تعبير الإداري الأديب محمد فال ولد عبد اللطيف في مذكراته الصادرة أخيرا.
يُؤْخَذُ على البرلمان، بعد أكثر من ربع قرن على نشأته، عدمُ ممارسته لوظائفه الأصلية، وعدم قدرته على الاستقلال عن الحكومة!
فرغم انحصار وظائف البرلمان في وظيفتين: تشريعية، ورقابية، إلا أنه لم يُسَجَّلْ لبرلماننا في دوره التشريعي أَنْ تَقَدَّمَ بِأَيِّ “مقترح قانون”، بل كانت جميعُ القوانين الصادرة عنه “مشاريع قوانين” مقدَّمة من الحكومة في الأصل.
وقد يكون هذا دليلا ناقصا على عدم استقلاله عن الحكومة، لكن ما تقول في إجازته وتزكيته لعدد من الاتفاقيات الاقتصادية – في العهد السابق – ثم إِدَانَتِهَا في العهد الحالي، واعترافِه بأنها أَضَرَّتْ بالاقتصاد والمصالح الوطنية، كما هو الشأن في “اتفاقية هوندونغ”؟
أما في دوره الرقابي فلم تُسَجَّلْ له سوى محاولتين فقط، هما: التحقيق في ممتلكات “هيئة ختو بنت البخاري الخيرية”، والتحقيق في “فساد عشرية الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز”.
لكن القرائنَ والظروف السياسية الخاصة، التي اكتنفت التحقيقين، توحي بأنهما كانا بإيعاز من السلطة التنفيذية.
وتبقى الحالة اليتيمة، التي وقف فيها البرلمان في وجه السلطة التنفيذية، رفضُ مجلس الشيوخ السابق لتعديلات 2017 الدستورية، وقد دفع ثمنها غاليا بإلغائه، وانتقاله من ثنائية الغرفة إلى أحاديتها.
أما الغريبُ حقا فهو وقوفُ أغلب أعضاء الهيئة، التي يفترض فيها أن تمثلَ الإرادة الشعبية للموريتانيين، ضد هذه الإرادة بتوقيعاتهم المطالبةِ بمأمورية ثالثة، في مخالفة صارخة للدستور الذي هو أسمى تعبير عن الإرادة الشعبية!
لقد أكدت ثلاثون سنة من الممارسة البرلمانية أن السلطة التشريعية لم تستطع بعدُ الخروجَ من عباءة السلطة التنفيذية، ولم تتمكن حتى الآن من الوقوف مستقلة عنها، تجسيدا لمبدأ فصل السلطات، وتطبيقا لمبدأ المراقبة والمساءلة وهي الهدف الأساسُ من إنشاء البرلمان، والأدهى من ذلك أن تبعيةَ البرلمان عندنا وصلت أحيانا حَدَّ استخدامه في تنفيذ الانقلابات!