ثقافة وفنون

“حفظ المتون”.. هل يعيد مجد الشناقطة الغابر ؟!

 أحمد سالم ولد باب

كتب ديل كارنيجي، أبو المؤلفين في ميدان “التنمية البشرية وتطوير الذات”، أكثر من مرة مندهشا من أن الأزهر الشريف يشترط لقبول الدارسين فيه حفظَ القرآن الكريم، وشرح الرجل لقرائه – معجَبا – أن ذلك يعني حفظ 600 صفحة !

ولعل كارنيجي لا يعرف أن القرآن الكريم، وإن كان أَجَلَّ محفوظات الأزهريين وأعظمها، إلا أنه بعض تلك المحفوظات الكثيرة، وربما كان أَسْهَلَهَا حفظا وعُلُوقًا بالذاكرة..

لكن المؤكد أن كارنيجي (1888 – 1955)، حين كتب ما كتب عن الأزهريين، لم يكن يعلم أن طلبةَ جامعاتٍ بدوية تسمى “المحاظر”، لا يفصلها عن الولايات المتحدة الأميركية سوى عَرض المحيط الأطلسي، كانوا أحقَّ بالتمثيل بهم في سعة المحفوظات والقدرة على استظهارها.

وفي نفس الوقت الذي كان كارنيجي يكتب عن مقدرة الأزهريين على الحفظ أو قريبا من ذلك الوقت؛ كان علامة سوريا الأستاذ مصطفى السباعي يرد على المستشرقين استغرابَهم لقوة الحفظ عند أبي هريرة، مستشهدا بما كتبه الأستاذ المحقق محب الدين الخطيب عما شاهده من حفظ أحد أبناء المحاظر، وهو أحمد بن الأمين الشنقيطي صاحب “الوسيط”، قال: «ونحن نعرف معرفة شخصية الأستاذ العلامة الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي رحمه الله، وكان يحفظ الشعرَ الجاهلي كله، ويحفظ شعر أبي العلاء المعري كله، ولو رحنا نعد ما يحفظه لكان شيئا عظيما، وكتابه “الوسيط في تراجم علماء وأدباء شنقيط” كتبه من أوله إلى آخره من حفظه إجابة لاقتراح شيخنا الشيخ طاهر الجزائري، وفي هذا الكتاب أنساب أهل شنقيط رجالا ونساء، وذكر قبائلهم، وما نظموه، وما يُؤْثَرُ عنهم من مؤلفات وأخبار، ولم يكن لذلك مرجعٌ يرجع إليه قبل كتاب “الوسيط” الذي ألفه الشيخ أحمد بن الأمين على ما نعرفه نحن شخصيا، فما حفظه أبو هريرة رضي الله عنه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طول صحبته لا يجيء في كميته شيئا بجانب ما شاهدناه من محفوظ الشيخ الشنقيطي، فضلا عن غيره من رجال أمتنا الممتازين بجودة الحفظ وقوة الذاكرة».

والواقع أن ما أعجب الأستاذ محب الدين الخطيب هو بعض محفوظات خريجي المحاظر في عهود ازدهارها، وإلى عهد قريب لم يكن أحد يشاء أن يَلْقَى نظيرا لابن الأمين الشنقيطي في الحفظ إلا لقيه، بل لو شاء ذلك اليوم لأمكنه !

وُجدت العلوم الدينية واللغوية في هذه البلاد منذ أن انتشر الإسلام في ربوعها، لكن النموذج المحظري الفريد الذي يتميز بالموسوعية وسعة المحفوظ وتنوعه لم يوجد إلا بعد مرحلة “التّعرب”، حيث بدأت بواكيره في القرن الحادي عشر الهجري، وبلغ أوج ازدهاره في القرن الثالث عشر، “قرن الأنوار الشنقيطي” بتعبير الدكتور السيد ولد اباه.

ويتميز هذا النموذج بالتركيز على الحفظ، والتدرج في تلقي المعارف من صغار المتون إلى كبارها، وشمول مقرراته لكل فروع الثقافة الإسلامية والعربية.

ولا نستطيع على وجه الدقة تحديدَ بدايةِ نشأة هذا النموذج بخصائصه المذكورة؛ لكن أقدم نص وقعتُ عليه يوثق هذا المقرر جاء في  “فهرس العلامة الحسين بن ناصر الدرعي” (ت 1091 هـ)، فقد كتب متحدثا عن شقيقه محمد بن ناصر الدرعي، شيخ الزاوية الشاذلية الدرعية: «وختمت على الشيخ الشقيق، سمي المعارف، محمد بن ناصر “مختصر خليل” ست مرات، و”الرسالة” مرة، و”التسهيل” لابن مالك خمس مرات، وشرحه لابن عقيل مرتين، والأول من المرادي عليه مرة، و”الكراريس “كذا مرة، و”الخزرجية” مرات ثلاثا، وشرح الشريف الرضي مرة، واليدوني مرة، وابن عطية على الفرائض مرتين، والقلصادي مرتين، و”الصغرى” للسنوسي عليه مرتين، و”الكافي في علم القوافي” مرة، و”المقدمة” وشرح المؤلف عليها ثلاث مرات، و”الألفية” لابن مالك ثلاث مرات، و”الأجرومية” وشرح المكودي عليها ثلاث مرات، وابن عباد على “الحِكَم” مرتين، وبعض “الإحياء” للغزالي أخذته عنه، وبعض “الترغيب والترهيب”، وختمت عليه “البخاري” زهاء ست مرات، ومسلما مرة، وسمعت منه مواضع من إيضاح أبي علي الفارسي، ومن”الجُمَل” للزّجاج، ومن “كتاب سيبويه”، و”تذكرة الضميري”، و”مفصل الزمخشري”، وقرأت جُلَّ “جمع الجوامع” للسيوطي، وبعض “الجامع الصغير”، وبعض “الجامع الكبير”، ونصف ختمة من (كهيعص) إلى من الجنة والناس برواية ورش وقالون أداء وتفسيرا وإعرابا، و”كفاية المتحفظ” نحو خمس مرات، و”الفصيح”، و”موطأ مالك بن المرحل”، و”تهذيب البرادعي” إلى النكاح في غالب ظني، و”بانت سعاد”، و”لامية العرب».

ومعلوم أن كثيرا من آباء المحظرة الأوائل أخذوا عن الشيخ محمد بن ناصر مؤسس الزاوية الناصرية الدرعية.

وربما كان من أهم آثار هذا النموذج التعليمي الفريد أن البلاد الشنقيطية لم يرتفع لها ذِكْرٌ إلا بسبب خريجيه، الذين أعادوا نموذج العالم الأصيل كما صوره الإمام الشافعي:

علمي معي حيثما يممت يتبعني ** قلبي وعاء له لا جوف صندوق

إن كنت في البيت كان العلم فيه معي ** أو كنت في السوق كان العلم في السوق

ويبدو أن وزارة الشؤون الإسلامية تريد اليوم بَعْثَ هذا النموذج من مرقده، حيث أعلنت عن تنظيم “جائزة رئيس الجمهورية لحفظ وفهم المتون المحظرية” سعيا إلى «بعث التنافس الإيجابي بين طلبة العلم في حفظ وفهم المتون المحظرية، التي عُرِفَ بها علماء الشناقطة في أصقاع المعمورة».

وأوضحت الوزارة أنها اشترطت اشتراطاتٍ علمية تدل على أن الفائز بهذه المسابقة «يستحق لقب العالم».

وبينت اللجنة العلمية للجائزة أن المسابقة «سَتُجْرَى في المتون الكبرى، المدرَّسة في جميع المحاظر؛ كـ”مختصر خليل”، و”ألفية ابن مالك”، و”احمرار ابن بونه”، و”الصحيحين” في الحديث، و”الشاطبية” في القراءات، و”لامية الأفعال” في الصرف، و”السُّلَّم” في المنطق، و”المنهج” في القواعد، و”غزوات البدوي” في السيرة النبوية، و”عقود الجُمَان” في علم البلاغة».

وكان “مركزُ تكوين العلماء” السابقَ إلى محاولة بعث “النموذج المحظري” الذي يرى رئيسُ المركز، الشيخ محمد الحسن ولد الددو، أنه لا يُعتبر العالمُ عالمًا إلا به، ومن ثَمَّ يلزمه أن يدرسَ «ثمانية وأربعين علما، وهي عبارة عن سلالات؛ ففي علم القرآن يدرس علم التجويد والرسم والضبط والتفسير وتفسير آيات الأحكام، وطبقات المفسرين والقراءات وعلوم القرآن، وفي الحديث نظير ذلك حيث يدرس علوم الحديث، وعلم العلل وعلم التخريج والأسانيد والرجال، ومتون الحديث وشروحها وتاريخ السنة.

وفي علوم الفقه يدرس الفقه المذهبي، والفقه المقارن، والأقضية والنوازل، وعلم الفرائض، والآداب الشرعية، وعلم أصول الفقه، والقواعد الفقهية، وتخريج الفروع على الأصول، وعلم الأشباه والنظائر، وعلم الفروق والاستثناء، والجدل الفقهي، وتراجم الفقهاء في مختلف المذاهب.

وفي علوم اللغة يدرس علم المفردات والشعر والنحو والصرف والبلاغة بعلومها الثلاثة، وعلم العروض والقوافي مع الدُّربة على قرض الشعر، وعلوم الاشتقاق الثلاثة، وعلم فقه اللغة المعروف حديثا باللسانيات.

وفي علوم الرواية يدرس السيرة والأنساب والتاريخ الإسلامي والتاريخ العام وفتوح الأمصار وتاريخ الحضارة.

وفي العلوم العقلية يدرس علم الكلام والمنطق والفلسفة والجدل العقدي.

وفي علوم التربية يدرس التصوف والسلوك وعلوم الآداب: آداب السفر والحضر والطلب وآداب الصحبة».

وقد زاد “مركز تكوين العلماء”، كما يقول رئيسه، على هذه العلوم مقرراتٍ أخرى فصارت ثلاثة وستين علما.

ورغم سحر النموذج التعليمي المحظري وجاذبية خريجيه فإنه لم يسلم من «سهام النقد من قبل مناصري الطرق التربوية الحديثة»، بدعوى أنه «يعتمد على حفظ المتون، المناقض في زعمهم للفهم والاستنباط والابتكار والاجتهاد»، والواقع أن المحظريين حرصوا على حفظ المعاني كما حرصوا على حفظ المتون، لأن نسيان المتن يؤدي حسب أمثالهم المأثورة إلى نسيان المعنى: «اللِّي اطْلَگْ النَّصْ يَبْگَ يطَّمَّصْ» !، والمعنى أن من ترك حفظ النصوص وقع في حيرة من أمره..

ويجيب الشيخ الددو على هذا المأخذ قائلا: «حفظ المتون لا يمكن أن يكون الإنسان أصلا طالبَ علم بدونه، فمجرد المطالعة لا يكوّن عالما لأنه لا يبقى معه من المطالعة إلا بعض المعاني الشاردة، وحفْظُ هذه المتون وإتقانُها هو الذي يبقى مع الإنسان من هذه العلوم، وسيكون الإنسان حينئذ مستحضرا لكل هذه الشروح وتظل باقية معه، كما أن الحفظ شرط للفهم، والاستيعاب الكامل للعلوم مما يعين على الاستنباط فيها».

ومن العجيب أن يقلد البعضُ المستشرقين في انتقاد “حفظ المتون”، ثم لا ينتبه إلى أنهم  عابوا أمرا عملوا به – ولا يزالون – في جامعاتهم، فقد حدثني أستاذ الآداب الفرنسية في جامعة انواكشوط سابقا، أحمدو بمبه ولد محنض رحمه الله تعالى، أنهم كانوا ملزمين بحفظ واستظهار نصوص أدبية من اللغة اللاتينية القديمة وغيرها في مرحلة الدراسات العليا بالجامعات الفرنسية !

وقد صيغت مقررات “مركز تكوين العلماء” في وثيقة جاءت في أكثر من 60 صفحة”، ويرى واضعو هذه الوثيقة أنهم حاولوا «صياغة المحضرة صياغة جديدة، تتحول فيها المقررات إلى مواد دراسية موزعة على الساعات، وجعلنا الطلاب يلتزمون بأخذ هذه العلوم في أوقات محددة، وألغينا الحرية المطلقة التي كانت من خصائص المحضرة القديمة؛ حيث كان الطالب يدرس العلم الذي يريد، في الوقت الذي يريد، على الأستاذ الذي يريد .

فهذه الطريقة ربما كانت مقبولة في تلك الأيام التي كانت فيها الدوافع إلى تعلم العلم أقوى من المعوقات، فلا ضرر في اتباع مبدإ حرية الاختيار للطلاب، أما الآن فلا بد من وضع سياجات لهذه الحرية، وتلك السياجات هي توزيع هذه المقررات على الزمن بطريقة إلزامية».

كما يرى هؤلاء أنهم استفادوا من طرائق الدراسة الحديثة في تنظيم الامتحانات والاختبارات وتوزيع البرامج بطريقة تراعي التدرج والمرحلية”، ولذلك وزعوا برنامج المركز إلى ثلاث مراحل، مدتها 17 عاما، هي: المرحلة الثانوية، والمرحلة الجامعية، ومرحلة الدراسات العليا.

وأخيرا لم يهمل “مركز تكوين العلماء”، كما يقول رئيسه، «البعدَ المعاصر؛ فالطلاب يُلزَمون بإعداد بحوث مقارنة، ويكوَّنون مكتبيا ويزورون المؤسسات الأخرى للاستفادة منها والاطلاع على تجاربها النافعة».

من الطبيعي أن يشعر أي مسلم أو عربي – عرف هذا النموذج التعليمي الفريد أو سمع عنه – بالأسف لضياعه، لكن من المثير أن يشاطره الأسفَ أيضا مستشرقٌ ألماني مهتم بالتراث الإسلامي والعربي في موريتانيا، هو الأستاذ “ألريخ ريبشتوك”، الذي نُقل عنه قوله: «إني لأتعجب من الدولة الموريتانية؛ فهي تملك موارد اقتصادية وكفاءات جيدة في شتى المجالات، لكنها لا يمكن أن تنافس عربيا وعالميا إلا بتراثها الإسلامي والعربي، فلماذا لا تهتم به وتمنحه الرعاية المطلوبة، من خلال الاستثمار في طباعة الكتب وصيانة المخطوطات، ودعم “المحاضر” التي هي منبع هذا التراث الغزير؟».
مراجع:

– السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، مصطفى السباعي

– فهرس ابن ناصر، تحقيق أحمد السعيدي

– شنقيط المنارة والرباط، الخليل النحوي

– فن الخطابة، ديل كارنيجي

– مقابلة مع الشيخ الددو، أجراها إبراهيم الدويري لصفحة “تراث” على موقع “الجزيرة نت”.

– وثيقة مقررات مركز تكوين العلماء، مركز تكوين العلماء.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى