فتح المختار بن الميداح عينيه على زمن رائع، تعمه السكينة والسعادة والبذخ.. ولد سنة 1914 في محلة رجل السيادة والجاه والعلم المختار بن محمبيد، فحمل اسمه، وعاصر ولدَه الفتى النبيل الجواد تاج المجالس وحليها أحمد مضرب المثل في كل شيء، وراهق أيام الأمير أحمد سالم بن إبراهيم السالم، وعايش أبهته وجلال بلاطه، ويفع وشب واكتملت رجولته أيام بطولات وجهاد ثم إمارة البطل أحمد بن الديد، الذي أحيى في مدحه “رسم” جده الكبير اعلي بن مانو.
وهي فترة كانت الفتوة والفتيان فيها على أشدهما: محمد ول أبنو، باباه بن ابته، وغيرهم كثير…
كانت للمختار منزلة خاصة عند هذا الأمير الذي كان يولي – كما يفعل سلفه وخلفه – أهمية خاصة للشعار .
يعود تقدير المجتمع للشعار وتعظيمهم، وبالأخص الأمراء والأبطال وأصحاب الجاه فيه، لِما لهم من الفضل في حفظ أمهات الأحداث التاريخية، وما يتعلق بالجانب البطولي الملحمي منها خصوصا، ولِما ينشرون ويندبون له من القيم والفضائل الحميدة .
وهذه وظيفة الشاعر على مر التاريخ العربي، وحتى الإسلامي، لاسيما قبل عصر التدوين والتوثيق، فلولا ما عرف بـ”أخبار عبيد” لضاعت أخبار اليمن، وضاع ذكر ملوكها وأشرافها وأبطالها وأقيالها .
هذا الكتاب عبارة عما سرده الشاعر والأخباري: عبيد بن شرية الجرهمي، وفى اسمه اختلاف كثير، على أمير المزمنين معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهما وأرضاهما، فأمر بتدوينه .
ومثله كتاب “التيجان والملوك”، وهو عبارة عما نقله ابن هشام، صاحب السيرة، بسنده عن أسد بن موسى إلى الرَّاوية الأخباري الشاعر التابعي وهب بن منبه، مستدلا على كل حادثة بالكثير من الأشعار .
هذان الكتابان يدلان على دور الشاعر بصفته موثقا، وعلى السعة الغريبة لحفظ هذين الشاعرين، إضافة إلى الدقة الفائقة في سرد تفاصيل الأحداث، وعلى ثراء وتشويق تاريخ اليمن القديم.
نذكر في هذا الصدد قدوم وفد تميم في السنة التاسعة للهجرة على رسولنا عليه أفضل الصلاة والتسليم، وتقديمهم لشاعرهم الزبرقان بن بدر، رضي الله عنه، ليذكر أيامهم، وأمره صلى الله عليه وسلم حسانَ بن ثابت، رضي الله عنه، أن يرد عليهم.
كما نذكر مرافقة العماد الأصبهاني للملك الصالح صلاح الدين الأيوبي يوم حطين وقوله :
يا يوم حطين والأبـــــــــطال عابسة .. وبالعجاجة وجه الــــشمس قد تعسا
رأيت عـــــــــــــــظيم الكفر محتقرا .. مــــــــــــعفرا خده والأنف قد تعسا
يا طهر سيف برى نفس البرنس فقد .. أصاب أعظم مــن بالشرك قد نجسا إلخ
وعلى ذكر الرسم: فهو آخر عروض من الأوزان القديمة التي ورثناها بالاسم عن تغريبة “هلال وسليم”، قبل أن يندثر لاندثار بواعثه، نتيجة قيام الدولة (الفتح والبطولات والملاحم).
وهو يشبه إلى حد قريب مثيله “الرسم” في الغرب الجزائري، وكذلك ما يعرف في تونس وليبيا بالمسدس العريض :
(شير شرع بين لمزان .. ويتوق توقان .. يومي ويسطع سطعان .. في عاقب الليل لظلم)
وكذلك:
(شوشان طاح بكمال .. فالطول يطوال .. أسود بكحال .. في وسط الدلاله)
أيضا:
(يا إلهي أنت السبحان .. عالم مكان .. رحيم رحمن .. يا خالق البشر)
يقول بركة بوشيبة في دراسته “فنون شعبية في الغرب الجزائري”: القصيدة الشعبية في المنطقة جمعت بين خصائص القصيدة العمودية في الشعر العربي الفصيح والموشحات الأندلسية من حيث الهيكل العام، ومن هنا فهي تنقسم إلى قسمين: أحدهما “الدهكيل أو الماي”، شابهت فيه القصيدة العمودية في الشعر العربي، وثانيهما: “الرسم” شابهت فيه الموشحات، وهو الأكثر انتشارا … إلى أن يقول: وتبعا لهذا الإيقاع قَسّم شعراء المنطقة الشعر إلى قسمين: “الرسم، والماي”.
نفس الشيء يمكن أن يطلق على بت “اتكسري”، إذا جاز لنا حمل لفظة “اتكسري” على أنها “التكسير”، وعندها مؤاخاتها مع “التقسيم”، الذي هو وزن شعري في الجزائر وتونس وليبيا تطابق الحركة والسكون فيه نفس “اتكسري”.
يقول الشاعر والروائي والباحث الاجتماعي أحمدو بن عبد القادر: إنه حمل معه من بدو الحجاز ونجد بعض القصائد الشعبية والنبطية، منها ما يشبه في عروضه “بت بو عمران”، وعرض مقطعا منه على المختار بن الميداح لمعرفة هل لعروضنا الشعبي علاقة بتغريبة “هلال وسليم”؟
(يالله اسكي بدر والــــــخيف .. والـــــواسطه وام ذيان
حتى الحوازم ينزلو الصيف .. وانشوف مدعوج لعيان)
فأخذ المختار العجب، وألح في السؤال: أين حصلت على هذا؟
فرد عليه ولم تسأل؟
فقال: لأن هذا “البت” يقال له “لمسكم”، وقد اندثر من مئات السنين!
والحقيقة أن البحث في الشعر الشعبي يقود إلى أن أصوله كلها ترجع لتلك التغريبة :
– الطلعة: يقابلها “الطالع” في الجزائر وتونس وليبيا :
(فزتي يا ريم الداوية .. ما كيفك حتى عربيه
شايد زينك يا شنتيه .. من تونس حتى الفزان
ربى اصونك يا عينيه .. افكك من عين العينان)
…
(العود والأوتار فالراس .. القوس والراباب والكاس
مع جميع بناين الناس .. يزهى كـــــــــل زهواني
وان قـــــــــــــاطع لياس .. ما صبت من يزهاني)
…
– الكاف تقابله “القيفان”:
(حبك فلمكنون .. عايش فالدفه
لباس المزيون .. بعد فـالضفه)
…
(صـــل يلتسمع في .. على الهادي الرسول
على قد الدني مثني .. مربع عرض وطول)
يقول الباحث ابراهيم أبو طالب في كتابه “في علم العروض والقافية وفنون الشعر الفصيحة والشعبية”: ونتيجة للتعدد الإبداعي في الشعر النبطي اختلفت مسميات الشعراء لقصائدهم الخاصة، مثل: الأشعار، الجيل، القول والقال، و”القيفان” وتعني القافية …
يقول الباحث التونسي محمد المرزوقي في كتابه “الشعر الشعبي التونسي”: لم يترك لنا التاريخ أي أثر لشعر منظوم باللغة الدارجة قبل منتصف القرن الخامس الهجري أي قبل الزحف الهلالي .
ولو كان جرير والفرزدق حضرا قول المختار وهو يصف حدة أذني فرس ممدوحه :
(اركب باز البيزان ..رخ الشيهان .. كهدروج الــغيران .. لعب رجليه
يالثعبن كالثعبان .. شيل كــــلشان .. كيف أقلام القرآن .. روص وذيه)
لحسداه أكثر مما حسدا عدي بن الرقاع وهو يمدح عبد الملك بن مروان على جودة تشبيهه لحدة وسواد قَرْنَيْ رشإ:
(كالظبية البكر الفريدة ترتعي .. من أرضها قفراتها وعهادها
إلى أن يقول :
تزجي أغن كـــأن إبرة روقه .. قلم أصاب من الدواة مـدادها)
إذا كان “الرسم” تأثر محليا بمفردات غير عربية فهذا لا ينفي صلته بالزجل الهلالي؛ لأن تأثر الشعر “اللهجي” العربي أو “الزجل” باللغات الأخرى قديم .
فقد ظهر في أيام زياد بن أبيه وابنه عبيد الله على لسان الشاعر اليمني يزيد بن مفرغ، وهو مَن هو مرتبة في الشعر، يقول :
آن أست نبيذ أست .. عصارات نبيذ أست
سمية روسبيد أست.. إلخ
ويقول أسود بن أبي كريم:
لزم الغرام ثوبي .. بكره يوم سبت
فتمايلت عليهم .. ميل زنكي بمستي
وفي أيام الرشيد يقول إبراهيم الموصلي:
أنا جيت من طرق موصل .. أحمل قلل خمريا
من شارب الــــــــــــملوك .. فلا بد من سكريا
إذن الشعر الشعبي قديم عند العرب، وكذلك قديم تأثره باللهجات المخالطة، وله عدة أوزان وتسميات ذكرها الأخباريون منها: المواليا، الزجل، الكان والكان، القوما، الدارمي، الدوبيت…
وفي جنوب الجزيرة العربية (اليمن) يوجد الشعر “الحميني”، وهو لهجي قديم من قبل أيام ذي جدن الملك القيل، جد الملكة بلقيس أول من غني في اليمن حسب تاج العروس نقلا عن الصحاح الذي قال فيه الكلاعي:
ويل ذي دول أي ويل .. الذي ليس له مال يبيعه
وروى صاحب الأغاني (6/ 65) عن ابن دريد عن أبي حاتم قال : سألت الأصمعي عن أعشى همدان، فقال: هو من الفحول وهو إسلامي كثير الشعر، ثم قال: لي العجب من ابن دأب حين يزعم أن أعشى همدان قال :
من دعا لي غزيلي .. أربح الله تجارته
ثم قال: سبحان الله، أمثل هذا يجوز على الأعشى يجزم اسم الله عز وجل ويرفع تجارته وهو نصب؟
وروي أيضا عن ذي يزن قوله :
قد علمت ذات امنطع .. أني إذا مموت كنع
أضربها بــــذا امقلع .. لا أتوقى بامجزع
يرى بعض المؤرخين أن اللهجات قديمة، وأنه كان لكل قبيلة لهجتها، وفي أواخر الخلافة الأموية كثر اتصال العرب بعضهم ببعض، فاحتاجوا إلى التفاهم فانتشرت بينهم عربية قريبة من لهجة قريش مع شوارد متنوعة من اللهجات الأخرى .
يقول “اتشارلس ليل” في مقدمته للمفضليات: إنه مما لا شك فيه أنه قد وجد بجزيرة العرب قديما كما يوجد اليوم في كثير من أنحاء الجزيرة العربية لهجات وفروق عظيمة …
يقول ابن جني في الخصائص (1/ 392): إن لغة حمير وما شابهها مختلفة عن لهجات ربيعة ومضر.
***
المختار، رحمه الله، لم يقصد إلى التخصص كما يظهر من الترجمة السابقة، بل نحا نحو الموسوعية كما يفهمها عصره، وكما تتيحه روافد المعرفة يومها.
فقد أخذ من كل المعارف ما يفوق النصيب، وهو ما تفرضه عليه بيئة النشأة حتى وإن لم يقصد: إگيدي – انوللان، العريه، آفطوط .
يقول الأديب والصحفي المصطفى بن بون :
لك الله يا مختارنا اختار ما يرضى .. وأعطاك في المأمول مقصوده الأرضى
ففيك عن الـــــــشادين خمس فوائد .. قد أكــــــــــملتها طولا وأكملتها عرضا
حكايات آداب لدى كـــــــل مجلس .. وميز لحكم العقد لا يـــــــــــختشي نقضا
وشدو يـــــفوق الشدو طرا بحسنه .. وضرب يفوق الــضرب في حسنه أيضا
وما السنة الـــــــغراء عنها بغافل .. فلم تترك الــــــــمندوب منها ولا الفرضا.
تغطي القصائد التي غنى بها، وهو الوحيد الذي غنى بالطوال، وكذلك المقطوعات والأبيات مختلف العصور من العصر الجاهلي إلى أيامه.. من امرئ القيس، وطرفة، للمتنبي، والحريري، والبوصيري، وابن الفارض، والعلامتين امحمد بن الطلبه، ومحنض باب بن اعبيد، إلى واحد وعشرين من معاصريه من شعراء القرن العشرين.
وهو ما يدل على سعة اطلاعه، وأنه يختار من مخزون ذاكرته، لا يردد ولا يكرر صدى من تقدموا عليه أو عاصروه من “الشعار”، لذا لم يتقاطع مع أحد من هؤلاء إلا في قطعة واحدة :
كملت محاسنه فلو أهدى السنا .. للبدر عند تمامه لم يخسف
وعلى تفنن واصفيه بمدحه .. يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
زد على ذلك معرفته التامة بأسماء الشعراء الذين غنى لهم ومناسبة الشعر الذي قالوا .
في دروسه الموسيقية للإذاعة الوطنية سأله المرحوم الأديب الراوية محمدن ولد سيد إبراهيم عن قائل :
سمسمة تـــــــحمد آثارها .. واشكر لمن أعطى ولو سمسمه
والمكر مهما استطعت لا تأته .. لتقتني السؤدد والـــــمكرمه
والمهر مهر الحور وهو التقى .. بادره قبل الشيب والمهرمه
فأجابه: الحريري على لسان أبي زيد السروجي .
***
في مقابلة مع برنامج “ضيف الأسبوع”، منتصف السبعينيات، سأل الصحفي ضيفَه محمدن ولد سيد إبراهيم عن أروع عزف سمعه؟ فأجاب تيدنيت المختار ولد الميداح، واستطرد إضافة لموسوعيته الموسيقية بلغت سيطرته على “تيدنيته” أن جعلها تحاكيه، وهذا من أعجب ما رأيت وما سمعت.
نفس الشيء، وبتعبير آخر، حدث به متنبي موريتانيا ناجي محمد الإمام، في حوار له مع الدكتور الناقد الشيخ سيدي عبد الله.
وفي ذلك يقول الأديب المختار الشاعر :
إذا دخل المختار في هوله أبرا .. ويترك ما قد كان في خاطري غبرا
له آلة تــــــــــقفوه إن قال ردة .. تضاهيه لا تعصي لـــــــمنطقه أمرا
فإن قالها شفعا تجيء بــشكلها .. وإن قــــــــالها وترا تجيء بها وترا
ويقول العلامة حيب الله بن محمد المختار :
إذا قال الـفتى المختار قولا .. وجس العود عاد له الـــــمقالا
يـــعيد العود قول الند رفعا .. وخفضا وانطباقا وانـــــــفعالا
حلفت بزمزم ومنى وخيف .. ومن وافى بــــــــــحجته ألالا
بأنك مـــاهر في الفن قطعا .. وفي ذاك المدى فقت الرجالا
براك الله في الـشادين فردا .. تبارك ربنا الــــــباري تعالى
ويقول العلامة الدكتور محمد المختار ول اباه :
مختار يجلو ما تـــــــــــــردده لنا .. صدأ القوب وقد شفى ألم الصدى
فالضرب قد أحسنته وسلكت في .. نهج الـــــغناء مقاصدا لن تقصدا
والعود يحكى ما تقول مــــــوافقا .. ما قلته فــــــــــكأنه رجع الصدى
ويقول العلامة المختار بن حامدن :
وعود يــــــــــــــــــعلمه ربه .. من النغم حلوا رخيما حسين
كأن أبا منه في مـــــكتب .. يقول فيحكي بلفظ الأنين
إذا قال: “با” قال: “با” عوده .. وإن قال: سينا يقل هو سين
***
في جواب على سؤال للمرحوم محمدن ولد سيد إبراهيم: لماذا كان عدد اظهورَه أربعة؟
قال: لأن كل ظهر يناسب طبعا من طبائع الإنسان، وشرح قائلا :الفرح وظهره “كر”، الحماسة وظهرها “فاغو”، الحنين وظهره “سنييمه”، والحزن وظهره “بيكي”.
وهو هنا وإن سماها طبائع فهو يشير إلى مصطلح موسيقي قديم يعرف في “نوبة الرصد” بـ”الطبوع الأربعة”.
وحسب مؤرخي الموسيقى؛ فإن أول من وضع “طبع الرصد” هو محمد بن الحارث الخزاعي نديم هارون الرشيد، ثم تبعه عدنان بن مدرك اليمني فوضع “طبع الحصار”، ثم تبعه سيدي بن عناد السوسي فوضع “طبع المزموم”، ثم تبعه هبة الله بن معاذ الحبشي فوضع “طبع الزيدان”.
وتوزيع هذه “الطبوع” الزمني والجغرافي وتوظيف المختار لها، خارجا عن مناسباتها وسردها التاريخيين، دليل قوي على أن الذاكرة “الشفوية” تختزن الأخبار والأحداث، وتوظفهما حسب ثقافة عصرها، مثلها في ذلك مثل الوثائق، كما يعطينا دلالة على أن لكل قوم وكل أرض طابعهم وإضافاتهم وبالتالي إبداعهم، دون وعي أو عن وعي منهم، على أنهم استمرار لحالة ثقافية معينة قديمة قدم الظروف التي أفرزتها.
وهنا نشير إلى أن حفظ هؤلاء الشعار لقواعد وتسلسل هذا التراث الموسيقي، بدقائق أحداثه ومناسباته الزمنية، وما قيل فيه من الشعر، هو ما يسميه الباحثان في الأدب الشعبي “ألبرت لورد” و”ميليمان بارت”: نظرية الصيغ الشفوية .
يقول ألبرت: القدرات الإبداعية للفنان الشعبي تتمثل في حفظ الفنان ذخيرة من الصيغ الشفوية، وعددا من الوحدات العروضية، ومجموعة من القصص، ومنهجا من التأليف، يساعده على ارتجال ملاحمه الطويلة، التي ربما جاوزت آلاف الأبيات.
***
تدل المدونة الشعرية، التي قيلت في المختار وفي فنه، وهي لِما يربو على عشرين شاعرا من مناطق شاسعة متفرقة، على انتشار تأثيره بشكل لافت، خاصة إذا علمنا أنه في تلك الأيام لم تكن هناك مدن تجمع الناس ولا قرى، وإنما بوادي يتتبع أهلُها مواقع القطر، ومواضع الكلإ والمرعى، فهم في تنقل مستمر.
وقد اشترك في هذه المدونة علماء أجلاء، وصلحاء أولياء، ووجهاء لهم منزلتهم المميزة في المجتمع، ما يبين القيمة التقديرية التي كان يحظى بها عند الجميع، خصوصا على مستوى النخبة.
يقول العلامة اللغوي المصطفى بن بابون:
بهولك يا مختار هاج لنا الذكر .. تذكر ما قد كان أودى به الدهر
لكم أضرب في الهول لَذَّ سمعها .. أمختار لا شلت أناملك العشر
ويقول العلامة الشيخ الطالب اخيار بن الشيخ كلاه:
أرى السيد المختار في المدح ماهرا .. ولا سيما إن هزه الشوق أو غنى
له تيدنيت أطرب الإنس صــــوتها .. جميعا وبعد الإنس أطرب الجنا
قفا في سبيل الـــــمجد قوما أماجدا .. قد أعجز أهل الشعر مدحهم الأسنى
احترام المختار لفنه، واقتناعه بتميز محصوله العلمي والمعرفي على مستويات متعددة؛ جعلاه لا يجلس إلا في مجالس العلم، حيث يجد أمثاله ونظراءه، وحيث أهل الفضل والإنابة والنبل والجاه، ما أعطى لتخصصه بعدا عن الابتذال، ولشخصه منزلة وهيبة في المجتمع، أو ما نستطيع أن نطلق عليه بلغة العصر كاريزما منقطعة النظير .
هذه الهيبة أو الكاريزما لعبت دورا في ضياع منتوجه الشعري لصعوبة الجرأة على سؤاله عنه، فالمتداول منه قليل جدا، وإن كان في غاية الأهمية من حيث موضوعه: التوحيد والاعتبار :
لا تتهم عن حـــــــد ينفع .. لــوخر دون الله وارفع
تخمامك عــن ذاك واكنع .. بالكلب ولـــــخلاك خو
وللي خـــاط ذاك مرجع .. مـــــا يحتسب كون هو
رزق العبد البيه واعـــد .. مول العون ومول القو
هو زاد الـــــهون واعد .. وللي واعـــد هـك هــو
…
كط امن الدني جات .. جعب زيـن ومشات
جاو وراها وحدات .. من شكل امـــــــاثلها
لحباب ولـــــحبيبات .. والـــــــجوغ والملها
غــــير الدني فوات .. واتـــــــــخزي بهلها
شي فــيها كط اطر .. وركبت فــــيه الولها
يـــوف مشي خطر .. مــعروف اعل اولها
في حفل بهيج يعرف يومها بـ”لبهار”، جمع الأمير المجاهد أحمد بن الديد كبار العازفين، ومن بينهم: محمد يحيى بن الببان، أحمد بن الببان، محمد بن لكليب، وطلب منهم عرض مهاراتهم في العزف، وتعيين أمهرهم وكانت النتيجة أن اختاروا المختار بن الميداح فارس الميدان .
“لبهار” بمنزلة المهرجان، لكن الفرق أن المتسابقين هم من يختار الفائز من بينهم، وهو تظاهرة تبرز تقدير الأمراء لهؤلاء الشعار وتثمين دورهم .
ترك المختار مصحفا كريما بخط يمينه، هو إجازته في القرآن .
وترك عقبا، نسأل الله تعالى أن يبارك فيهم، سلكوا طريقه في التعلق بالإبداع، والثقافة، والنظر إلى الحياة على أنها ميدان للتميز والإبداع والتألق لمن اختار وبذل الجهد .
وإذا كان المختار اشتهر على المستوى الوطني بتميزه في فنه الرائع، أو كان السبب الوحيد في شهرته عند من لا يعرفونه شخصيا بالعلاقة والمجاورة، فهذا يذكرنا بتساؤل إسحاق الموصلي الذي ذكره الأخباريون نقلا عن الشاعر محمد بن عطية العطوي، قال :حضرت في مجلس القاضي يحيى بن أكثم، إسحاق الموصلي يناظر أهل الكلام وأهل الفقه والشعر واللغة ففاق الكل، ثم أقبل على القاضي يحيى وقال: أفي شيء مما ناظرت فيه وحكيته نقص أو مطعن؟ قال: لا، قال: فمالي أقوم بسائر هذه العلوم قيام أهلها بها، وأنسب إلى فن واحد قد اقتصر الناس عليه؟
إذن هو ليس بدعا في هذا.. كثيرون من أهل النبوغ والموسوعية اقتصر الناس على جانب واحد من حياتهم .
رحم الله المختار بن الميداح وبارك في ذريته ورحمه آمين.