قال الله جل شأنه: {إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرا؛ فإنْ أحدٌ ترخَّصَ لقتال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فيها فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم؛ وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار.. وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس؛ وليبلغ الشاهد الغائب» (متفق عليه؛ واللفظ للبخاري).
هناك في ذرى التاريخ عاشوا.. وبنصر الله أيدوا.. ونالوا شرفا تقصر عنه شمس الضحى وتغضي الجوزاء حياء منه.. مكن الله لهم في الأرض فما عاثوا ولا بطروا، ونصرهم على أعدائهم – وأعدائه- فما استكبروا ولا تجبروا {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم..} أما نحن ركاب السفينة التي شارفت الجنوح بما كسبت أيدينا.. من تداعت علينا الأمم كما وصف نبينا.. فحسبنا أن تستحضر مواقفهم وندعو الله أن يوفقنا لترسم آثارهم..
الأسباب
كان النبي – صلى الله عليه وسلم- يعلم أن العرب لن تذعن لدين الله ما لم تذعن له قريش؛ وأن مكة هي الحصن المادي والمعنوي للوثنية لكثرة ما تعاورها من ضلال بعيد. بيد أن بنود صلح الحديبية كانت تمنعه – صلى الله عليه وسلم- من إخضاع مكة وأهلها.. حتى جاء الله بالسبب على أيديهم! فقد نص الصلح المذكور على أن “من شاء دخل في عهد محمد وعقده ومن شاء دخل في عهد قريش وعقدها” ومن ثم دخلت خزاعة – مسلمها وكافرها- في عهد المسلمين، ودخلت بكر في عهد قريش؛ وكان بين الطرفين (خزاعة وبكر) ثارات من عهد الجاهلية شغلا عنها بالإسلام..
وذات يوم وقف بكري ينشد هجاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم- على مسمع من خزاعي؛ فضربه الخزاعي.. فثارت بكر واستعانت بقريش فأمدتها بالعتاد والرجال؛ فغدروا بخراعة أثناء الليل وقتلوا منهم عشرين رجلا.. وهو ما استدعى خزاعة إلى الاستنجاد برسول الله – صلى الله عليه وسلم- بموجب العهد التاريخي بينها وبين آل هاشم، ثم بموجب صلح الحديبية، فلما أبلغوه الخبر قال: «والله لأمنعنكم مما أمنع منه نفسي».
لات حين مندم
أما قريش فندموا على نقض العهد وبعثوا أبا سفيان بن حرب إلى المدينة لتلافي الأمر، فقدم المدينة وهو يظن أن الخبر لم يسبقه إلى المسلمين؛ فلقي النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه “شد العقد وزيادة المدة” فقال صلى الله عليه وسلم: «هل كان من حدث» قال: لا، قال: «فنحن على مدتنا وصلحنا» ولم يزده عن ذلك. ودار أبو سفيان بين أفاضل الصحابة فلم يجد منهم معينا؛ بل ردوا الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى قومه غير مطمئن.. فشكوا فيه حتى “تنسك عند الأوثان” ليقنعهم أنه لم يسلم.
المسير
تجهز النبي – صلى الله عليه وسلم- للسفر وأمر أصحابه بذلك، وأمر المقيمين خارج المدينة بشهود رمضان بها؛ فتوافدت قبائل مسلمي أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة.. ولم يخبر – صلى الله عليه وسلم- بقصده غير أبي بكر – رضي الله عنه- لكي لا تجد قريش أي خبر حتى يبغتها في عقر دارها قبل أن تستعد للحرب؛ لأنه لا يريد حربا بمكة.. بل يريد إخضاع أهلها دون هتك حرمتها.
خرج النبي – صلى الله عليه وسلم- يقود جيشا من عشرة آلاف مجاهد في منتصف رمضان سنة ثمان للهجرة، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه، ولما وصل الأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وصهره عبد الله بن أبي أمية أخو أمنا أم سلمة – رضي الله عن الكل- مهاجرين مسلمين؛ وكانا من أشد الناس عداوة له.. فصفح عنهما وقال: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}.
فلما وصل الكديد رأى أن الصوم شق بالمسلمين فأمرهم بالإفطار وأفطر هو أيضا.. وبعيد ذلك لقي عمه العباس مهاجرا بأهله وعياله؛ فأمره بإرسال عياله إلى المدينة وأن يعود هو معه إلى مكة.
بساحة العدو
مع حلول الليلة الخامسة عسكر المسلمون بمر الظهران على مشارف مكة؛ فأمر النبي – صلى الله عليه وسلم- بأن يوقد كل رجل من الجيش نارا (10.000) وكان قد بلغ قريشا أن “محمدا زاحف بجيش عظيم لا تدرى وجهته” فأرسلوا أبا سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يستكشفون الخبر.. فلما رأوا النيران ارتبكوا وحاروا؛ فأمسك أفراد من الجيش بهم فسلموهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما كان الغد أمر – صلى الله عليه وسلم- عمه العباس بالتريث بأبي سفيان في طريق الجيش ريثما يمر به (ولعله أراد كسر إرادته حتى يقتنع بعدم جدوى القتال فتصان حرمة مكة المكرمة) فمرت به الكتائب كتيبة كتيبة حتى مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة كانت أقل الكتائب.. فاشتكى إليه بعض تهديد من مر به؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة» وأمر أن تركز رايته صلى الله عليه وسلم (يحملها الزبير بن العوام) بالحجون (شمالا) وأمر خالد بن الوليد بالدخول من أسفل مكة (جنوبا) من كدًى؛ ودخل هو من كَدَاء (شمال غربها) من أعلاها؛ ونادى مناديه: من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد (الحرام) فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن؛ واستثنى جماعة لها أذى عظيم للإسلام والمسلمين أهدر دمهم – ولو وجدوا تحت أستار الكعبة- منهم عبد الله ابن أبي سرح وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية، وهبار بن الأسود والحارث بن هشام (أخو أبي جهل) وزهير بن أبي أمية، وكعب بن زهير المزني، ووحشي (قاتل حمزة) وهند بنت عتبة..
ونهى عن قتل غير هؤلاء إلا من قاتل..
دخول الفاتحين
قابل خالد فئة تحاول صده عن دخول مكة فقاتلهم وقتل منهم أربعة وعشرين واستشهد اثنان من المسلمين فدخل مكة عنوة من أسفلها.
أما كتيبة النبي صلى الله عليه وسلم فلم تلق دفاعا، ودخل مكة من أعلاها ضحوة الجمعة لعشر بقين من رمضان، وقد انحنى – تواضعا لله تعالى- حتى تكاد جبهته الشريفة تمس الرحل؛ مردفا أسامة بن زيد رضي الله عنهما.. حتى وصل إلى الحجون (موضع رايته) وقد نصبت له هناك قبة فيها أما المؤمنين أم سلمة وميمونة رضي الله عنهما؛ فاستراح قليلا ثم سار وبجانبه أبو بكر رضي الله عنه – تارة يحادثه وتارة يتلو سورة الفتح- حتى دخل البيت فطاف سبعا وحَوْلَ الكعبة يومها 360 صنما تعبد من دون الله؛ فأمر بإزاحتها وإتلافها.. فكان تطهير الكعبة لأول مرة منذ قرون من الأوثان بداية لتطهير شبه الجزيرة العربية من الوثنية بالتمام والكمال..
عفو المقتدر
بعد ذلك دخل – صلى الله عليه وسلم- الكعبة وكبر في نواحيها ثم خرج إلى مقام إبراهيم وصلى فيه ثم شرب من ماء زمزم وجلس بالمسجد الحرام والكل ينتظر مصيره المجهول.. فقد أخضع الله قريشا للرجل الذي كذبوه وآذوه وقاتلوه وأخرجوه من بلده.. ولكن النبي – صلى الله عليه وسلم- لا يغضب لنفسه ولا ينتقم لها.. لذا قام فيهم خطيبا وقال: «يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم» قالوا: خيرا.. أخ كريم وابن أخ كريم!! فقال صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
مبادئ عامة
ثم خطب – صلى الله عليه وسلم- مبينا أحكاما شرعية كثيرة؛ منها أن المسلم لا يقتل بالكافر، ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين، ولا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، والبنية على المدعي واليمين على من أنكر، ولا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم، ولا صلاة بعد الصبح والعصر، ولا يصام يوم الأضحى ولا يوم الفطر.. وكلها أحكام كانت بحاجة إلى الإيضاح لمجتمع في طور التحول الديني والحضاري.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء؛ والناس من آدم وآدم من تراب» وتلا قول الله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير}.
البيعة
بعد ذلك بدأ الناس يبايعونه صلى الله عليه وسلم؛ فجاءه رجل يرتعد فقال صلى الله عليه وسلم: «هونْ عليك فإني لست بملِك؛ إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد» ثم بايع النساء على أن لا يشركن بالله شيئا، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن (أن لا يلحقن بأزواجهن ولدا من غيرهم) ولا يعصينه – صلى الله عليه وسلم- في معروف؛ وتم كل ذلك بعيدا عن الثأر والانتقام والإذلال..
الله أكبر..
حانت الصلاة فأمر النبي – صلى الله عليه وسلم- بلالا بالأذان فصعد على ظهر الكعبة الشريفة ورفع صوته بالأذان؛ معلنا للعالم – من فوق أول بيت وضع للناس- أفول نجم الوثنية وتطهير الحرم المكي من عبادة غير الله إلى الأبد.. ثم بدأ – صلى الله عليه وسلم- في ترتيب البيت المكي، فولى عتاب بن أَسِيد إمارتها وكان شابا (21 سنة) وحدد له درهما عن كل يوم فكان عتاب يقول: لا أشبع الله بطنا جاع على درهم كل يوم.. واستمر واليا على مكة حتى توفي مع أبي بكر في يوم واحد رضي الله عنهما.
هدم الأصنام
في اليوم الخامس من مقامه – صلى الله عليه وسلم- بمكة بعث خالدا ابن الوليد – رضي الله عنه- في ثلاثين مجاهدا إلى بطن نخلة لهدم العزى، وكانت أشهر صنم لقريش؛ فهدمها وعاد مظفرا.. وبعث عمرو بن العاص – رضي الله عنه- لهدم سُواع، وكان على ثلاثة أميال من مكة، وهو أكبر صنم لهذيل.. كما بعث سعد بن زيد الأشهلي – رضي الله عنه- في عشرين مجاهدا إلى المشلل (جبل على شاطئ البحر الأحمر) لهدم مناة وكانت صنما مشتركا (!!) بين كلب وخزاعة.
وأقام – صلى الله عليه وسلم- بمكة بعد الفتح تسعة عشر يوما يقصر الصلاة بانتظار الخروج إلى حنين لنشر الإسلام في هوازن.
الوفاء
لم يرض النبي – صلى الله عليه وسلم- ولا أغلب المهاجرين بالإقامة بمكة المكرمة رغم انعدام دواعي الهجرة عنها بعد الفتح؛ بل ظلوا أوفياء لدار هجرتهم، وللأنصار الذين آووهم ونصروهم وآثروهم على أنفسهم واندمجوا معهم في الأوقات العصيبة.. وهكذا كانت لحمة الإسلام أقوى تأثيرا من عاطفة الصفوة المصطفاة من الناس إلى الأهل والوطن. وحتى عند ما حوصر عثمان – رضي الله عنه- أشير عليه باللجوء إلى مكة – شرفها الله- والاحتماء بها.. فاختار القتل – مظلوما- على ترك دار هجرته والخروج عن موطن النبي – صلى الله عليه وسلم- والشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وعن سائر آل النبي وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
***
عدمنا خيلنا إن لم ترووها ** تثير النقع.. موعدها كداء
يبارين الأعنة مصـــعدات ** على أكتافها الأسل الظماء
تظل جيادنا متمـــــطرات ** تلطمهن بالْخُمُرِ النـــــــساء
فإما تعرضوا عنا اعتمــرنا ** وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يــــوم ** يــعز الله فـــيه مــن يــشاء.
(حسان بن ثابت رضي الله عنه)