بعد فترة من النشاط الميداني تقضي مصلحة العمل بلزوم المرء للمكتب وترك الميدان للشباب؛ وهو ما يفتح آفاقا للتصورات الخاطئة المضحكة أحيانا.
حينما رسوت على بر المكاتب سكرتيرا للتحرير بإحدى كبريات الصحف كان معنى هذا أني مسؤول عن المادة شكلا ومضمونا؛ أستلمها من المحررين والكتاب، وأرتبها حسب أهميتها وأحجز لما هو متوقع من أنشطة وأحداث، وأدفع بالمادة إلى الطابع ثم يعيدها إلي مطبوعة فأراجعها لتخرج سليمة لغويا مما صنع بها كاتبوها وما أضافه هو إليها، وفي النهاية أحيلها إليه جاهزة مع تحديد صفحاتها وتوجيه ما قد يزيد منها أو تحديد ما يسد به الفراغ الباقي بعدها في حال النقص.
وكانت معاناتي كبيرة من بعض ناشئة المحررين الذين صاروا رجالا كبارا (منهم أوفياء لي) وبعض مقالات الرأي التي تتناول مواضيع مهمة دون أن يملك أصحابها أدوات الكتابة ولا موهبتها! لذا كنت “أترجم” بعضها إلى العربية وأعيد كتابة بعضها (دون مبالغة!). وكانت تطول كليل المستهام، إلى حد يجعل الفراغ منها فتحا مبينا ونصرا مؤزرا. (الكاتب الحقيقي لا يطيل في عرض رأيه).
أذكر أني مرة عانيت الأمرين في مقال لأحد مشاهير المسهبين (من الكتاب الآن) أطال فيه كأنما يتحدث بالحسانية عفو الخاطر في مجلس عادي (ربما كان 12 صفحة!) وحين فرغت منه سجدت لله، ففوجئ المدير بي ساجدا قبيل الغروب فعلق متعجبا من تأخير صلاتي إلى هذا الوقت، وحين رفعت قلت له إني سجدت شكرا لله على إنهاء مقال فلان، فكان الرجل بعدها ومقالاته نكتة في أروقة المقر!
بعد هذا الجهد المضني تخرج تلك المقالات بأفكار متماسكة في حلة مناسبة فتنال الإعجاب ويعاد نشر بعضها في المواقع وينال موقّعوها الإطراء فيشعرون بالزهو، وأنا جالس في الظل أشعر بالرضى عن عملي في صمت.
بعضهم اغتر فحسب نفسه كاتبا مقتدرا فأصيب بإسهال الكتابة وصار ينشر هنا وهناك.. لكنه بدا على حقيقته فلم ينل ما أمله، وأصيب المتلقون بحيرة في شأنه.
مرة انضم إلينا شاب جديد على مهنة المتاعب للقيام بمهمتي الطبع والإخراج، كنت وإياه كنخلتي حلوان في المكتب نظرا لارتباطنا بالمكان وترابط عملنا، وكان ممن يعجب من دقة تقديري للمساحة التي ستشغلها المواد بالحجم العادي (كان زملائي يسمون طريقتي “مقياس ريختر”) ولعله ظن أني بدأت العمل الصحفي من داخل الغرف؛ ففي أول إجازة لي بعد مجيئه إلينا عدت بتحقيقات ومواد مختلفة على الورق، قدمت إليه أحدها ليطبعه ولما سلمه إلي قال باستغراب: “هذا زين!” فشكرته على مجاملته، لكنه كرر قوله مؤكدا، فاستفهمته عن مقصوده فقال: “أليس هذا تحقيقك الأول؟!”