قد نرى الموقف الواحدة في صور مختلفة.. ربما يرجع هذا إلى اختلال في عالمنا الداخلي، فكل واحد منا حبيس ذاته ومنحصر فيها، لا يصله شيء من العالم الخارجي إلا بواسطتها، وهذا هو السبب في أن الأسباب الخارجية الواحدة، والظروف نفسها، يختلف تأثيرها باختلاف كل فرد عن غيره، كما يختلف طعم الماء الزلال عند المريض عن غيره..
هذا ما حدث يوم رأيت أناسا يهرعون نحو سيارة في منتصف الشارع حين اقتربت لأرى شابا مضمخا بالدماء ملقى على الأرض، وإذا بشاب آخر قد جمد الانفعال حيلته، وأفقده الفزع أعصابه، منخرط في نوبة بكاء متواصلة، توحي كما توحي ملامحه أنه أخوه… كان المصاب في وعيه لكنه في الآن ذاته، ظل شارد النظر كأنه يحدث شخصا لا يراه غيره، “لابد أنها لحظة زوار ساعة الاحتضار في علم الثاناتولوجي”، والناس حوله، وقد انبعثت فيهم المشاعر الإنسانية الرفيعة يحاولون إنقاذه بما أوتوا من وسائل.. اتصل بعضهم بسيارة إسعاف، بينما وظّف البعض ما تعلم من الإسعافات الأولية، وفي لحظات انتظار الإسعاف حدث أمر غريب! فقد التفت المصاب إلى أخيه فأوصاه بوالديه، وفجأة تهللت أساريره، وأشرق وجهه، وبكل سلاسة خرج منه السر الإلهي!!
كان الحدثُ لافتاً محيراً مثيراً للتأمل، وقد ضاعف تأثيره أن أخا الميت قال إن حديثه، في الآونة الأخيرة، تمحور حول الموت – على غير عادته – فأصبح يتحدث عنه بشوق وحماس، كما أنه صار يتحدث عن الذين سبقوه إلى العالم الآخر بلهفة غريبة، وقد ذكر أنه لم يشك ألما، وأنه لا يعاني مرضا، حسب ما أسفرت عنه الفحوص الشاملة التي أجرى قبل وفاته بأسبوع.. أما إذا كان قد أصيب بمرض بعد الفحص فإن الأمر لم يخلُ من غرابة، لأنه لم يذكر أي أعراض عضوية، لكنه فعلا كان يشعر بالموت، والأغرب أن غريزة حب البقاء قد اتخذت منه مجراها، حال وقوع الحادث حيث قفز من السيارة لينجو بنفسه، لكن الإرادة الإلهية كانت قد حكمت عليه بالموت خارجها كما حكمت على أخيه بالنجاة داخلها.
أليس المرض عادة مؤشرا على قرب الأجل؟! كيف لبعض الناس إذن أن يعلم باقتراب أجله وهو في أتم العافية؟ هل يمكن للإنسان أن يشتم رائحة الموت؟!! أو أن يلمسه؟! أم أنه يراه في الأفق؟!!
ابيضت صفحات ذهني حينذاك، لترسم عليها هذه التساؤلات بخطوط عريضة، فحللتها بما يلي:
إن الموت يحدث كل لحظة داخلنا دون نشعر، يحدث بموت الخلايا في سقوط الدموع واللعاب وقطرات العرق، كما يحدث بموت ملايين كريات الدم الحمر والبيض في دمنا، هو إذن من ضمن الحالات الطبيعة التي تمر بنا في كل الحالات.
وإن الحادثة ترتبط ارتباطا وثيقا بوقائع كثيرة سبق أن مررت بها، كانت في السابق أحداثا مألوفة ومواقف عابرة، تغيرت فجأة في نظري، وكأن غشاوة كانت تمنع نظري من إيصال المعاني إلى قلبي – ولا أعني بالقلب هنا القطعة اللحمية التي تضخ الدماء في الكائنات الحية – أكانت محدودية الأفق تحول بيني وسبر أغوارها؟!! أم أن الأمر قد تجسد في قولهم: “كثرة المساس تذهب الإحساس”… هي مواقف عديدة يصعب حصرها:
كم من مرة تبلغنا وفيات أشخاص، كانوا في أتم العافية، ماتوا بسبب وعكات صحية طفيفة بينما نقابل أشخاصا يعانون أشد الأمراض فتكا يعيشون بها حينا من الدهر… ترى ما هو السر؟
تصدر غالبا عن أشخاص قبل وفاتهم أحوال غريبة ومحيرة، جديرة بالدراسة والتحليل، ليست أحداثا استثنائية ولا حالات شاذة، وإنما هي مواقف عديدة حسب الدراسات التي أجريت في هذا المجال، تحصل لنسبة كبيرة من الموتى، كأن يودع الميت أحبته مثلا وداع الفراق الطويل، رغم أنه قد يكون خارجا لمكان قريب، أو أن يوصيهم وصية مفارق ونحو ذلك..
كيف للإنسان أن يشعر بالموت؟؟ هل يوقظ المرض الشعور بالموت؟
من الطبيعي أن يستشعر المريض قرب الموت، على أن حالات الشعور بالموت، تتغير حسب الوقائع والظروف التي يمر بها الإنسان، من الطبيعي مثلا أن نشعر بقرب الموت حين نرى يد القدر تجول حولنا لتختار ما شاءت من بيننا، هذه حالات طبيعية طالما شعرنا بها لكنها لم تكن سوى هواجس أو انفعالات من تأثير مشكلات الحياة..
وقد أجرى الدكتور كارليس أوسيس، عضو الجمعية النفسية الأمريكية، الذي درس الظاهرة عشرين عاما، سأل خلالها 1000 طبيب في أقسام الطوارئ، و3000 ممرضة، وألوف الشهود ممن حضروا وفيات، وقد نشر سنة 1977 كتابا بعنوان: “ساعة الموت” At the hour death، قال فيه إن معظم المحتضرين يرون أقارب توفوا لهم أو “شخصيات روحية” حسب تعبيره.. وخلال رؤية القريب المتوفى، تتملك المحتضر حالة فرح واستبشار ورضى وطمأنينة، كما اتضح أنهم لا يعانون من الهلوسة كما يعتقد البعض، حيث تشير أجهزة المراقبة إلى حالة مشاهدة حقيقية..
ترى ما الذي كان وراء تلك السعادة؟ أهي المشاعر الجامحة تعترينا في لحظات السمو الروحي، حين نحلق في فضاء المثل والمقدسات؟ هل هي نفس الغبطة والحبور؟ أم أنه السلام الداخلي والانسجام بين الذات والوجدان الذي يعترينا في لحظات السكينة والصفاء..
أما عن الطريقة فنحن من نختارها كما نختار نمط الحياة، فليس الذي ينعم بحياة متسقة ومرتبة، ويستبشر بحياة أكثر مثالية وسعادة، كمن أخفق في تحقيق السعادة فلجأ إلى الموت لأنه ضعُف عن مواجهة الحياة، فالذي اكتشف ذاته فأحبها يصبو إلى حياة أجمل، أما الذي سئم الحياة فأسمى غاياته أن يختفي من الوجود..
إن الذين يرون الحياة على حقيقتها، يتمتعون بحياة طيبة، ويعيشون عيشة هنية، أولئك الذين أتقنوا أدوارهم على مسرح الحياة لينعموا بسعادة لا نهائية،
أما الذين جهلوا ماهية وعلة وجودهم فلن تتسنى لهم الحياة الهنيئة، ولا العيشة السوية، فهم الذين غلبت عليهم الحسرة، وجثمت على قلوبهم التعاسة، حتى وقعوا تحت وطأة الشتات التخبط طيلة حياتهم.