من المفارقات العجيبة أن يطل علينا الرئيس السابق – من محبسه – محاضرا هذه المرة عن الديمقراطية وحقوق الشعب وحرياته، وهو مَن انقلب على أول رئيس مدني منتخب، وتلاعب بالدستور، وألغى الغرفة العليا بالبرلمان (مجلس الشيرخ)؛ انتقاما من أعضائه الشجعان، وهو مَن أدمن خلال سِنِي حكمه حل جمعيات المجتمع المدني، وسجن وملاحقة معارضيه.
والأغرب هو حديثه عن احترام الحريات الإعلامية، وهو الذي أمر بتوقيف البث المباشر للتلفزيون لمجرد طرح أسئلة مزعجة في مؤتمر صحفي عام، كما في حادثة “اطفي” المشهورة، التي كانت مصدر تنكيت واسع النطاق، ولا تضاهيها في الغرابة إلا حادثة توقيفه لمباراة كرة القدم في كأس “السوبر” المحلي عند الدقيقة 65، وأمره الفرق المتنافسة بالتوجه لضربات الترجيح، وهي حادثةٌ أثارت سخرية العالم، لِمَا عكست من نزوع سلطوي تجاوز كل الحدود.
يتخذ الرئيس السابق من “قانون الرموز”، الذي أقرته الجمعية الوطنية مؤخرا، منصةً للتعلق بأذيال النقاش العمومي في البلاد، وهو الذي يواجه تهما ثقيلة تتعلق بنهب المال العام، وتبديد ثروات الشعب الإستراتيجية، وهي تُهَمٌ تفقد صاحبها الأهلية السياسية والأخلاقية للمشاركة في أي نقاش عام.
والحقيقة أن الرئيس السابق مصدوم – في محبسه – من أجواء الحرية والتهدئة والتعاطي الإيجابي مع الشركاء، ومناخ التشاور الوطني حول القضايا الجوهرية، بعد عشرية التخوين والاستقطاب والاحتقان، ومصدوم أكثر بنزع فتيل ألغام الاحتقان الاجتماعي، وقد حلت محلها سياسات ومؤسسات تحارب الإقصاء والتهميش والغبن، وتعزز اللحمة الوطنية والعدالة وتكافؤ الفرص.
بإمكان الرئيس السابق أن يتفرغ للدفاع عن نفسه، ويتعاطى بإيجابية مع المحققين، فلا خوف على الديمقراطية الموريتانية، فجمعيات المجتمع المدني، التي كان يتحكم في الترخيص لها ويحظرها متى شاء، أصبحت تنال الترخيص بمجرد الإشعار، والبرلمان الذي كان ينتقص منه استعاد دوره الرقابي والتشريعي اللائق، وموريتانيا تحتضن جميع أبنائها، ومؤسسات النظام الديمقراطي تعمل بانسيابية، والأغلبية الحاكمة منفتحة على الجميع بلا إقصاء أو تخوين، وأجندة التشاور المقبل ستناقش كل الملفات بلا حظر ولا تجاهل.
هذا هو المناخ العام في موريتانيا منذ وصول الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني للسلطة، وهو محل إشادة وطنية عابرة للأحزاب والاتجاهات السياسية والفكرية، في إجماع غير مسبوق في تاريخ البلاد.
إن قانونَ الرموز تدبيرٌ عمومي لمواجهة المخاطر المترتبة على الاستعمال غير المسؤول للحرية، التي تتيحها منصات التواصل الاجتماعي، وما يمكن أن تتسبب فيه من أضرار على هوية البلد وثوابته ووحدته وتماسكه، وهي مخاطر يجب التصدي لها بشكل قانوني، يحمي المكتسبات، ويستبق المخاطر.
والأغلبية الحاكمة، وفي مقدمتها رئيس الجمهورية، شديدة التشبث بالديمقراطية وحماية الحريات الإعلامية، ولديها إيمان عميق بأهمية الأدوار التي تضطلع بها وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، وإسهاماتها في حماية القيم والتقاليد الديمقراطية، وكشف الفساد، والشطط في استعمال السلطة، ولكن النظام لديه في المقابل مسؤوليات؛ فالحرية غير المنضبطة بمعايير عقلانية، وقيم مشتركة، وضوابط قانونية، تمثل قنطرة للفوضى والكراهية والعنف، وواجب السلطة المسؤولة هو صيانة المكتسبات، وحفظ المصالح، ودفع الضرر، واستباق المخاطر.
بعد إدانته في تحقيق برلماني، وتَحَرُّكُ القضاء لفتح تحقيق ابتدائي معه؛ انخرط الرئيس السابق في سلسلة تحركات ليظهر بمظهر المناضل الديمقراطي، ويبدو أنه بعد حبسه يخطط لتقمص دور المنظر الديمقراطي، الذي يقدم دروسا في الديمقراطية للأمة، والحقيقة أنه ليس مناضلا ديمقراطيا، وهو من التنظير الديمقراطي أبعد، وما ينتظره منه القضاء والشعب هو التصريح بالممتلكات والاعتذار وطلب الصفح.
.