قد نختلف كثيرا مع الأستاذ محمد ولد امين، وقد لا نتقاطع معه في أي شيء من توجهاته وأفكاره.
لكن كتابات الرجل تشغلك عن آرائه وتوجهاته، وبالذات ما يمكن تسميته ولو على سبيل التجوز “شطحا أو فيضا” إذا أحسنا به الظن.
سعة ثقافته، وتمكنه من ناصيتي علم الاجتماع وعلم النفس تجعل القارئ، سواء لمقالاته الطويلة نوعا ما أو “تأملاته القصيرة”، يسبح دون وعي منه في فضاءات من التلميحات الموحية والإحالات المعرفية المشحونة بتعدد الروافد الثقافية.
إنه فائض الحافظة ينساب على قلم الرجل، جاعلا من الموضوع المطروق مواضيع، ومن العالم المعني عوالم، ومن المَعلم المذكور معالم، إنها هبة تمليها كثرة الاطلاع على التجارب المؤثرة طيلة سيرورة الكائن البشري الإبداعية في جميع مناحي الحياة.
يتكلم الرجل كما يكتب في السياسة والثقافة والاقتصاد والسياحة و”الدين” والتجارب والتأملات الشخصية، مبتعدا في كل هذا عن اللعب بالألفاظ والحذلقة والتواري خلف اللغة ومحسناتها وسحرهما الجاذب، عن خواء الجمل من الأفكار والمادة من الموضوعية.
إنه يستند إلى زخم البعد المعرفي متعدد الأوجه.
لا يمكن للسياسي الفطن أن يهمل علمي التاريخ والاجتماع، ولا علمي الجغرافيا والأجناس البشرية، وهذا ما يتمثل في ولد امين.
علم التاريخ: لكون الحاضر هو النتيجة الحية الماثلة لتدافع الأمم السابقة وتتابع الكوارث الطبيعية، لذا لا يمكن للسياسي والباحث في علم السياسة إلا أن يتكئا، حسب المختصين في هذا المجال، على “المنهج التاريخي المقارن والملاحظة العيانية”.
علم الاجتماع: الباحثون في هذا الميدان توصلوا إلى أن السياسة مرافقة للاجتماع البشري، وملازمة لحياة الناس، وبالتالي لا يمكن أن يفترق العلمان.
وهذا ما جعل الباحث في علم الاجتماع السياسي الدكتور يوسف لغوط يقول: علم الاجتماع يدرس الظواهر الاجتماعية بشكل عام، وعلم السياسة يدرس الظواهر السياسة بشكل عام، وعلم الاجتماع السياسي يدرس نقاط التلاقي بينهما.
وهذا ما عناه ابن خلدون بإشارته إلى أن الواقع السياسي ينبغي دراسته مثل الوقائع الاجتماعية.
الجغرافيا: لبعدها السياسي، كنقاط التلاقي بين مجتمع ومجتمع، وبين حضارة وحضارة.
الأجناس: لبعدهم كحالة فاعلة بما تشكله من تقابل وتنازع بين المجموعات البشرية.
وهذا ما جعل ولد امين يتكلم عن اللغة الوسيطة، ويضرب لها الأمثال، إنه النظر إلى الآخر المتلقي، واستحضار قابليته للرفض والممانعة، وهو أمر تفرضه عليه خلفية المحاماة.
من جهة أخرى كمفكر مهتم بالسياسة، يرى أن البحث في الظاهرة السياسية ينطلق من النظر إليها كحالة مجتمعية تطرح أسئلة وتبحث عن حلول.
إنه الوعي باحترام التخصص، والركون إلى احترام القارئ، خصوصا الواعي النابه، والمتفاعل مع الأحداث.
وإذا كانت تحليلاته تبدو مباشرة أو حادة أو غير مألوفة، فلعل ذلك تأثرا بمقولة فرانسيس بيكون: يجب شكر ميكيافيلي وأمثاله، الذين يقولون بصراحة، ومن دون مواربة، ما اعتاد الناس على فعله.
لا أقول إن الأستاذ يتبنى الميكيافيلية، لكن الميكيافيلية هي المؤسسة لعلم الاجتماع السياسي، وبالتالي يبقى لها الأثر في توجهات وأطروحات كل المشتغلين في الميدان.