علمتني الحياة في ظل التأمل أن لله حكمة عالية دقيقة جليلة في خلق الأشياء من أجزاء تتكامل فتشكل جسما واحدا، وحتى تلك الأجزاء التي تعتبر جزءا من كل تتكون هي الأخرى من أجزاء مصغرة، وهكذا دواليك..
حيث كل شي يتألف من وحدات صغيرة تجتمع فيما بينها لتشكل جسما كبيرا، فمثلا الإنسان يتألف من مجموعة أعضاء، وتلك الأعضاء تتألف من أنسجة، والأنسجة تتكون من خلايا… وهكذا هي صورة الأشياء من حولنا لمن أمعن وأحسن التأمل فسيجدها من جهة الظاهر هي جسما واحدا ومن حيث الماهية هي مجموعة أجزاء..
بصورة مقاربة وجد العبد الفقير إلى الله نفسه يفكر في أمر العلاقات بالبشر، فإذا به أمر كله عجب، يحار فيه ذو العقل واللب، فلم أجد أشبه للعلاقات بالبشر من عمر الإنسان، فعلمت أن العمر ما هو سوى علاقة عابرة بهذه الدار، وأن علاقتنا بالبشر صورة مصغرة من العمر، فلكل واحدة من تلك العلاقات عمر محدد قد يطول أو يقصر، وما إن يحين وقت انقضاء ذلك العمر إلا وستتبدل معالم تلك العلاقة، ليحل الجفاء محل الصلة والصفاء..
وبإمكان كل واحد منا أن يقوم بتجربة بنفسه فيفكر في من مروا عليه من المعارف وسيجد العجب العجاب، فسيجد من ظنهم جزءا منه فألفهم وألفوه وتقاسم معهم الحلو والمر، وأعطاهم من وقته وجهده ونفسه وقلبه.. فلما انقضى عمر تلك العلاقة وكتب لشمسها أن تغرب، صار يلقاهم كأنهم غرباء على الأجساد رغم معرفة الروح لهم، فصارت العين تنظر إليهم وكأنها لا تصدق ما ترى، هي أقرب لعين شاعر تنظر إلى أطلال ورسم دار محبوبته..
فمن منا من لم يسامر فلانا وفلانا، واتخذ فلانا خليلا وصديقا، وتعرف على فلان وتقاسم معه هموم الحياة وأودع سره لزيد، وانبسط واستأنس بعمر، وشارك خالدا في أفكاره ورؤاه…الخ..
ثم لم يزل به حتى رأى الجميع قد تحولت أقدارهم وأُلفتهم وخلتهم وأنسهم إلى غيره، وحل محلهم غيرهم في حياته، فتبدلت أرض الصداقة غير التي كانت بالأمس، فصار يسمع المنادي ينادي بفلان كأنه ليس الذي عرف بل كأنه صورته من عالم آخر، فسارت الحياة بالجميع في درب تغير المعارف وتبدلهم وتحول ألفتهم من شخص لآخر..
بل إن من أغرب ما يمر على ذهني في مثل هذا تلك اللقاءات الخاطفة، حين أرى لأول مرة شخصا في الطائرة أو القطار أو محطة نقل للمسافرين فأكلمه أو أكتفي بالنظر إليه ثم أسافر عن المكان الذي جمعنا، فأعجب من علاقة ولدت ثم لم يكتب لها العيش سوى للحاظات، ولا أعلم هل سيكتب اللقاء ثانيا أم لا..
وهذا وإن كان بابا رحبا وفضاء شاسعا لا تحيط به عبارات خاطرة سريعة إلا أنه برغم ثقله على الروح التي تميل إلى المثل وعالم الصفاء وخلة الوفاء إلا أنه ظاهرة طبيعية بالنسبة للجسد ولا يعبر في أغلب الأحوال عن شيء سلبي في الإنسان، بل هو من عاداته التي جبل عليها، فالإنسان بطبعه ابن بئته والمعارف جزء من محيطه، فإذا تغير المحيط من الطبيعي جدا أن تتغير معه المعارف، تماما كما يغير كل واحد منا ثيابه بحسب حاجته…
فالمهم أن يعي الإنسان أن جفوة زيد أو عمر ليست بالضرورة تعني بغض أو تغير موقع الود في قلب الجافي، بل هي فطرة في الإنسان أن يتخذ من الخلان من يجد في محيطه الذي يعاشر يوميا، ومن بَعُد عن العين ألف الجسد بعده رويدا رويدا ولو طبعت في القلب صورته!!
كما أنه من المهم للإنسان أن يفهم أن العلاقات في هذا الزمان أصابها في قلوب بعض الناس ما طبع زماننا هذا من طابع مادي، فهي لا تتشكل إلا على أساسين هما:
-المصالح المادية: وهذا هو الأغلب لأن الناس غلب عليها التفكير في سبل العيش، فصارت تبالغ في السعي لتحصيل المادة، فبات أغلب أفكارها ومشاريعها في ذلك الصدد فصار ذلك الباب هو الأرحب في عالم العلاقات، فكل من تربط به معاملات مادية ستدوم وتتعزز العلاقة به، نظرا لوجود مصلحة مشتركة وباعث على التواصل المعين على بقاء قلب روح العلاقة ينبض!
-أما الثانية فهي: الاهتمامات المشتركة وهذه وإن كانت تندرج تحته الأولى، إلا أنني أقصد به هنا جانب التعامل غير المادي من أفكار ثقافية أو أخلاقية من الأمور التي تميل إليها نفوس قلة ممن لا تعني لهم المادة شيئا كبيرا، فكانت العلاقة بهم تحتاج إلى ما يعين على تثبيت أركانها على أرض الواقع كي لا تعصف بها رياح الجفوة وعدم التواصل.
وخلاصة القول عندي في الصنفين أن كل علاقة تحتاج ما يعين على بقائها، وخير سبيل لذلك بحسب ما طغى في الإنسان، فمن غلب عليه جانب الجسد كانت المصالح المادية خير معين له، ومن طغى جانب الروح عليه كانت الاهتمامات الثقافية والأخلاقية هي سقيا العلاقة به، وقد يوجد صنف يجمع بين الجانبين..
رسالة النص:
-العلاقات عُمْرٌ على العاقل أن يعي ذلك فيحاول أن يعيش ذلك العمر بخير، ويعامل بالحسنى كل من عرف ولكن يتوقع انقضاء ذلك العمر في أي وقت ولا يحزن بل يحفظ الود والسر ويوطن قلبه على التعلق والأنس بالله دون البشر.
-على العاقل أن يعلم أن كل إنسان منجذب بطبعه إلى أمثاله فلا يعتبر كل من لم يتواصل معه أنه لا يرضى عنه أو لا يحبه، فعدم التواصل لا يعني الكره أو عدم المحبة بل يعني عدم وجود اهتمامات مشتركة، فليوطن كل عاقل نفسه على الثقة بنفسه ومحبة الخير لإخوته المسلمين أجمعين.
-والأهم من ذلك هو إنصاف الناس وحفظ حق الإسلام من معاملتهم بالحسنى وحسن الظن بهم وظن بهم الخير تواصلوا أو لم يتواصلوا، فقد سأل الفاروق رضي الله عنه عليا كرم الله وجهه عن أناس يتعرف عليهم المرء ولكن لا يجد من روحه ألفة لهم، فهل ذلك لعيب فيهم؟
فرد سيدنا علي:
لا، إنما الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها أتلف وما تناكر منها اختلف!
صحيح أن المودة هي سر الألفة والمحبة لذلك قالوا:
(القرابة تحتاج مودة والمودة لا تحتاج قرابة.)
وفقنا الله لكل خير وجعلنا من مفاتيح الخير للمسلمين وملأ قلوبنا من محبتهم وأجسادنا من منافع المسلمين، وعجل بالفرج عن أمة الحبيب صلى الله عليه وسلم.