قال الله جل شأنه: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم..}.
وقال تعالى: {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم}.
وقال النبي محمد صلى الله عليه وسلم (في حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه): «إنه شهد بدرا.. وما يدريك لعل الله – عز وجل- اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (رواه البخاري).
غزوة العشيرة (تمهيد)
علم النبي – صلى الله عليه وسلم- أن عيرا كبيرة لقريش تحوي أموالا هائلة؛ بحيث لم يبق قرشي -أو قرشية- له مثقال فصاعدا إلا بعث بمال في تلك العير.. قد خرجت إلى الشام؛ كان قائد العير أبا سفيان صخر بن حرب، في أقل من ثلاثين رجلا.
خرج النبي صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى سنة 2هـ في مائة وخمسين مجاهدا من المهاجرين، يحمل لواءه عمه حمزة بن عبد المطلب، واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد (رضي الله عن الكل) متجها إلى ممر القافلة ففاتته.. فحالف بني مدلج ومن لف لفهم ثم عاد إلى المدينة بانتظار عودة العير المذكورة من الشام.
في طريق العودة
بعد خمسة أشهر تقريبا سمع صلى الله عليه وسلم برجوع أبي سلفيان وعيره، فدعا من كان جاهزا «من كان ظهره حاضرا فليركب معنا» فخرج قوم وتخلف آخرون؛ ظنا منهم أن القتال غير محتمل.. لأنه إنما ندبهم للعير «هذه عير قريش قد أقبلت فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها».
خرج الجيش لثلاث خلون من رمضان سنة 2هـ، وعدده 313 مجاهدا أغلبهم من الأنصار؛ وكانت عُدتهم ثمانا من الخيل، وسبعين بعيرا يتناوبون الركوب عليها؛ وكان اللواء مع مصعب بن عمير رضي الله، وقبل الخروج استخلف النبي – صلى الله عليه وسلم- عبد الله ابن أم مكتوم رضي الله عنه على المدينة.
نذر الخطر
علم أبو سفيان بخروج الجيش لاعتراضه فحاذر وأوفد ضمضما الغفاري يستصرخ أهل مكة – في أبشع هيئة- لنجدة عيرهم وإنقاذ أموالهم ورجالهم؛ فنفروا سراعا.. لم يتخلف من أشرافهم إلا أبو لهب، بعث مكانه العاص بن هشام مقابل دين ربوي للأول على الثاني؛ وكاد أمية بن خلف يقعد خوفا من وعيد نبوي له بالقتل (على كفره لم يكن يشك في صدق النبي صلى الله عليه وسلم) وكان من احتشد لإنقاذ العير 950 مقاتلا؛ على مائة فرس وسبعمائة بعير، مع البذخ وإظهار الترف؛ حيث اصطحبوا الخمر والمطربات.. زاعمين أنهم – بذلك- سيرهبون العرب من اعتراض قوافلهم.
على أهبة الانطلاق
استعرض النبي صلى الله عليه وسلم بظاهر المدينة جيشه، فرد من لم ير فيه قدرة على القتال؛ وبعث رجلين يتحسسان خبر العير.. وتابع سيره حتى وصل الروحاء فعلم بخروج قريش لحماية عيرها وجاء مخبراه بتوقع وصول العير بدرا خلال 48 ساعة؛ فجمع أصحابه وخاطبهم: «أيها الناس إن الله قد وعدني إحدى الطائفتين: العير أو النفير» (النفير: الجيش) وحدثهم بما فهم منه الأنصار القصد؛ لأنهم إنما بايعوه على حمايته داخل المدينة المنورة، ولم يلتزموا له بالغزو معه خارجها وكانوا حوالي 250 من مجموع الجيش (313) فتحدث المقداد بن الأسود وسعد معاذ الأنصاري (رضي الله عنهما) بما أثلج الصدور حيث قال الأول: “يا رسول الله امض لما أمرك الله فوالله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب {أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون} بل نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون..”
أما سعد بن معاذ (سيد الأوس) فقال: “قد آمنا بك وصدقناك، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، فامض لما أمرك الله؛ فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا؛ إنا لَصُبُرٌ في الحرب صُدُقٌ عند اللقاء؛ ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك. فسر على بركة الله”
فسُرّ صلى الله عليه وسلم وقال: «والله لكأني انظر إلى مصارع القوم» فتأكد المسلمون من وقوع الحرب آنذاك فقط.
بين الحكمة والنزق
انتبه أبو سفيان لترصد المسلمين إياه فغير مساره إلى شاطئ البحر الأحمر (غربا) فنجا. وحين أحرز ما معه من مال ومن معه من رجال طلب من قريش العودة إلى مكة فاتفق معه حكماء الجيش كالأخنس بن شريق وعتبة بن ربيعة؛ حيث عاد الأخنس يقود بني زهرة وتحمل الثاني دم حليفه عمرو بن الحضرمي – قتيل سرية ابن جحش رضي الله عنه- الذي اتخذه أبو جهل ذريعة للقتال بعد نجاة العير؛ بيد أن أبا جهل مكر بعتبة ومن معه – سوى بني زهرة الذين انصرفوا رأسا وبني عدي الغائبين أصلا- حتى أوقعهم في التهلكة بدعوى أنهم سيقيمون ثلاثا على بدر يطعمون الطعام ويشربون الخمور ويعربدون على أنغام قيناتهم فتسمع العرب بخطرهم فلا تزال تهابهم أبدا.
العريش
اقترح سعد بن معاذ على النبي صلى الله عليه وسلم بناء عريش يكون قريبا من المعركة وشبه منعزل في نفس الوقت ولديه حراس وركائب “فإن أعزنا الله وظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا؛ فقد تخلف عنك أقوام ما نحن أشد حبا لك منهم ولا أطوع لك منهم رغبة في الجهاد ونية؛ ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك -إنما ظنوا أنها العير- يمنعك الله بهم ويناصحونك ويجاهدون معك”.
وبالفعل أقاموا العريش في الطرف الشمالي الغربي للميدان بموقع مشرف على ميدان المعركة قبل الاصطفاف وتجرد أبو بكر لقيادة الحرس النبوي.. يؤازره سعد بن معاذ رضي الله عنهما.
التأهب للقتال
نزل المسلمون بعدوة وادي بدر الدنيا (الشمالية) ونزل المشركون بالقصوى (الجنوبية) وكانت منازل المسلمين على الطرف الشمالي لمناهل بدر.. فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة» فأشار عليه بأن ينزلوا بين المشركين وبين المناهل ويحتفظوا بما يليهم منها – بعد تشييد حوض وملئه ماء- ويتلفوا الباقي إمعانا في حصار المشركين؛ فاستحسن صلى الله عليه وسلم رأي الحباب وعمل به.
كانت العدوة الدنيا ذات أرض دهسة فجاء المطر فاشتدت؛ بينما أصبحت العدوة القصوى موحلة ذات طين يعوق حركة المشركين..
وضحوة الجمعة السابع عشر من رمضان اصطف الجيشان للقتال فعدّل النبي – صلى الله عليه- وسلم صفوف المسلمين، وأعطاهم أوامره النهائية بعدم الهجوم حتى يأمرهم، والاكتفاء بالدفاع، واستخدام النبل لهذا الغرض، وعدم سل السيوف حتى يلتحموا بهم.. وحضهم على الصبر والثبات. وبعد تعديل صفوف المسلمين نظر صلى الله عليه وسام إلى قريش وقال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني».
نشوب المعركة
كاد الخلاف يثني عزيمة المشركين؛ خصوصا وأن عتبة بن ربيعة -وهو من هو فيهم- كان ضد الحرب.. لولا أن القضاء الإلهي مكن السفهاء بقيادة أبي جهل من إفشال خطط أهل البصيرة من المشركين؛ لذا عاب أبو جهل عتبة بالجبن والحرص على ابنه أبي حذيفة (رضي الله عنه) الموجود في جيش المسلمين من القتل، فغضب واهتاج واندفع إلى المنازلة بابنه الوليد وأخيه شيبة فخرج إليهم ثلاثة من شجعان الأنصار فأعرضوا عنهم؛ طالبين “أكفاءهم من قريش” فاخرج النبي – صلى الله عليه وسلم- نظراءهم في السن والنسب تمشيا مع نظرتهم الجاهلية (عبيدة بن الحارث بن المطلب، وحمزة بن عبد المطلب، وعليا ابن أبي طالب رضي الله عنهم) فبارز عبيدة بن الحارث عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد.. فقتل الأخيران نظيريهما المشركين وطال الالتحام بين عبيدة وعتبة ثم اختلفت ضربتاهما فقتل عتبة وقطعت ساق عبيدة فكر حمزة وعلي على عتبة فأجهزا عليه وحملا عبيدة جريحا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم- فوسده جسده الشريف وطيب نفسه وبشره بالشهادة.
كان لجولة المبارزة وقع قوي في رفع معنويات المسلمين وتدمير معنويات المشركين وهم يرون مصرع ثلاثة من شجعانهم وأشرافهم قبل الاقتتال الفعلي لم ينج أي منهم!!
.. وحمي الوطيس
شبت المعركة.. وكان النبي – صلى الله عليه وسلم- يدور بين العريش وبين جيشه محرضا على القتال؛ ويدعو بإلحاح مناشدا ربه نصره الذي وعده..«والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم رجل فيُقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا ادخله الله الجنة» فقال عمير بن الحُمام: أما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟! ورمى تمرات بيده كان يأكلهن وقال: إني لحريص على الدنيا إن أكلتهن.. واندفع يقاتل حتى استشهد رضي الله عنه..
واستمرت المعركة، وأيد الله المسلمين بالملائكة من عنده بشرى ولتطمئن قلوبهم، وألقى رعبهم في أعين المشركين.. ولم يرعهم إلا النبي – صلى الله عليه وسلم- يثب في مقدمة الصفوف بين المقاتلين مرددا: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} ومع حرصهم على قتله وشجاعتهم لم يجرؤ أي منهم على التصدي له رغم تنويهه بنفسه وتصديه للقتال (حدث الشيء نفسه – بل أكثر- يوم حنين).
لم تكن إلا ساعة وانهزم المشركون لا يلوون على شيء؛ مخلفين سبعين قتيلا وسبعين أسيرا.. وأوصى النبي – صلى الله عليه وسلم- بالإحسان إلى الأسرى وبالرفق بهم، وأمر بإلقاء القتلى في قليب هناك.. في سابقة لم تكن قوانين الحرب تعرفها من قبل.
بشري تقطع ألسنة السوء
انتهز المنافقون واليهود الفرصة فملؤوا المدينة إشاعات؛ مرجفين بالنبي صلى الله عليه وسلم وجيشه، وبأن المشركين قضوا عليهم فور التقاء الطرفين.. ولعلمه صلى الله عليه وسلم بالقوم بعث زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهما بشيرين إلى المدينة فوصلا وقد انصرف المسلمون من دفن رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم، زوج عثمان رضي الله عنهما..
ورغم وضوح الأمر فقد استمر بعض المرجفين في أباطيلهم؛ متخذين من قدوم زيد على ناقة النبي صلى الله عليه وسلم حجة هذه المرة؛ متسائلين: لماذا يركبها لو كان محمد (صلى الله عليه وسلم) حيا؟ كأنهم يعرفونه صلى الله عليه وسلم حريصا على متاع الدنيا!.
توزيع الغنائم
اختلف رأي المسلمين في طريقة التوزيع المناسب للغنائم فنزلت فوتح سورة الأنفال لإيضاح ما أشكل وللحديث عما جرى ببدر؛ فترك المسلمون الأنفال (الغنائم) لحكم الله ورسوله فوزعها صلى الله عليه وسلم بينهم وأشرك – في الأجر والغنيمة- رجالا كلفهم بأمور ضرورية كما أسهم لشهداء بدر.
الأسرى
استشار صلى الله عليه وسلم المسلمين في الأسرى، فأشار عمر بقتلهم.. وأشار أبو بكر بفدائهم؛ فقال عليه الصلاة والسلام: «إنما مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم: {فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} وإن مثلك يا عمر مثل نوح {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا}» وعمل صلى الله عليه وسلم برأي أبي بكر ليتقوى المسلمون اقتصاديا بمردود الفداء؛ ولكن القرآن نزل مصوبا رأي عمر {ما كان لنبيء أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} ثم رفع الله الحرج وسوغ الفعل بقوله جل شأنه: {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقو الله إن الله غفور رحيم}.
الفداء
فدت قريش أسراها بما يصل إلى أربعة آلاف درهم للأسير؛ ومن لم يكن يملك ما يفتدي به – وكان يحسن القراءة والكتابة- علم عشرة من أبناء المسلمين الكتابة والقراءة وخلي سبيله. وقد منَّ النبي – صلى الله عليه وسلم- على بعضهم دون مقابل عملا بقول الله تعالى: {فإما منا بعد وإما فداء} كوهب بن عمير، وأبي عزة الجمحي، وأبي العاص بن الربيع..
وهكذا خرج المسلمون إلى العير طلبا لما ينفعهم ويؤذي عدوهم فصرفهم الله عنها ووجههم إلى النفير (الجيش) لينالوا أكبر مما أملوا ماديا ومعنويا ويمرغوا كبرياء الشرك إلى الأبد؛ حيث لم يبق بيت في مكة إلا دخلته مصيبة مما حدث ببدر.. في حدث حير من يعتمد الماديات من المحللين العسكريين إلى الآن؛ إذ كيف ينتصر قوم شبه عزل خرجوا لغير القتال على جيش يعادل ثلاثة أمثالهم تقريبا.. وخرج مستعدا للقتال؟! إنه النصر من عند الله!
*** ***
لقد علمت قريش يوم بدر ** غداة القتل والأسر الشديد
بأنا حين تشتجر العوالي ** حماة الروع يوم أبي الوليد
قتلنا ابني ربيعة يوم صاروا ** إلينا في مضاعفة الحديد
وفر بها حكيم يوم جالت ** بنو النجار تخطر كالأسود
وولت عند ذاك جموع فهر ** وأسلمها الحويرث من بعيد
لقد لاقيتمُ خــــــــــزيا وذلا ** جَهِيزًا باقيا تحت الوريد
وكان القوم قد ولوا جميعا ** ولم يلووا على الحسب التليد.
(حسان بن ثابت رضي الله عنه).