إحاطة – (خاص)
في خضم انشغال المدونين بطبيعة مشاركة المرأة الشنقيطية قديما في الثقافة، بين منافح عن مركزيتها في الشأن الثقافي، ومعتبر ذلك ضربا من المبالغة والخيال؛ أحببت أن أضع بين أيدي الجميع نماذج مما فاحت به المصادر المعتبرة، من صور للشنقيطيات المتميزات في مجالات الثقافة المتنوعة، والمثال لا يقتضي الحصر، وإنما هو للتنويع والاستشهاد.
الشنقيطية العالمة الولية:
من أغلى ما يصل إليه المرء أو يحب الوصول إليه في هذه الحياة أن يجمع بين العلم والولاية، ويخطئ البعض حين يقصر جمع ذلك على جنس الرجال وإن كان له منه الحظ الوافر؛ فإن من النساء في القديم والحديث من جمعت بين العلم والولاية.
ومن تلك الشموس المشرقة التي حازت بشهادة أهل الفضل الأمرين في وطننا الحبيب:
ــ الولية أمنة بنت يوسف: يقول عبد الله العتيق بن البخاري مشيرا إلى ذلك في رثائها:
مَـاتـتْ لـمْــروَّ واتْـواريـثْ == الدِّينْ، اُمـاتـتْ لـﮕْـرايَ
اُماتتْ والتفّتْ، والحديثْ == واشرابْ الموْتَ، والْآيَ
ــ السالكة بنت انبيكه: يقول عنها فتى بن سيدي آمين:
من رام إحيا قلبه فالسالكه == تحيا برياها القلوب الهالكه
علم الحقيقة والشريعة عندها == كل له عند التأمل مالكه
منهاجها في الفقه منهج مالك == إن لم تكن من نفسها هي مالكه
والعقد عقد الأشعري وطريقها == سلكت بها نهج الجنيد السالكه
شنقيطيات مميزات:
داخل البلاد وخارجها كانت المرأة الشنقيطية مشاركة في معارف عصرها مشاركة متميزة؛ ففي خارج البلاد اشتهرت اخناثة بنت بكار، وقد كانت قارئة تحسن القراءات السبع، وعالمة بالحديث، لها تعليقات على كتاب الإصابة في تمييز الصحابة للإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني محفوظة في الخزانة الملكية بالرباط، ذكرها صاحب الاستقصا في تاريخ المغرب الأقصا.
وأما داخل البلاد فحدث ولا حرج: فالشنقيطية منطقية: تشهد لذلك طرة غديجة بنت العاقل وما يؤلف عنها من استسهال هذا العلم وأخذ جهابذة العلماء له عنها. وتلك فاطمة بنت الفاظل لما سألها حرمة بن عبد الجليل ـ زمن دراسته عند أخيها سيدي عبد الله ـ عن إشكال خلود فرعون في النار بينت له أن جوابه يقتضي تركيب شكل منطقي مؤلف من آيتين هما: (وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين) وقوله: (وأن المسرفين هم أصحاب النار).
والشنقيطية أصولية مقاصدية: يذكر أن فاطمة بنت الفاظل رأت أخاها سيدي عبد الله يبحث عن مسألة فسألته عم يبحث؟ فقال: لم يعطون التحري لأحد هل هو محدث أم لا؟ ولا يعطونه لأحد شك في شيء من صلاته؟ فقالت: يعطون للمقصد من الأولوية ما لا يعطون للوسيلة.
والشنقيطية نحوية: فمن المأثور عن فاطمة بنت الفاظل أنها نزل عندها مرة ركب من الزوايا فلما كان وقت العشاء أرسلت لهم قدحا كبيرا مملوءا من لبن الإبل وجلست بحيث تسمع ما يقولون، فذاقه أحدهم فاستطرد قول ابن مالك في العطف: وامنع هنا إيقاع ذات الطلب، يشير إلى الشاهد على هذا وهو: جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط؟! فقالت لدرايتها بهذا العلم: والله ما مسه ماء، ولكن الإبل ظلت على البير في معاطنها تشرب الماء وترعى “الحاذ” وإبله لا يكفيها شيء من الماء”.
الشنقيطية الشاعرة:
من أقدم ما يحفظ من شعر أهل هذا البلد قول مريم بنت أحمد بزيد:
علينا من الرحمن سور مدور == وسور من الجبار ليس يسور
وسور من السبع المثاني وراءنا == ويا حي يا قيوم والله أكبر
… الخ
وفي ترجمة العلامة بلا يقول ابن الأمين في الوسيط عن مريم بنت العلامة بلا بن مكبد ـ وليته سجل لنا بعض شعرها ـ: “وله بنت اسمها مريم. نبغت في الشعر، واشتهرت به، وما حفظت لها شيئا. وكانت تمدح أكابر العلماء ويمدحونها”.
وللشاعرة يمه بنت سيدي الهادي من قصيدة في مدح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
يا رب صل على النبي المصطفى == عين الخلاصة من سلالة سام
الفاتح الأغلاق نور وجوده == والخاتم الأنبي خير ختام
والنـاصر الـحقّ الـمهـيـمن وحده == بـالـحقِّ والهادي إلى الإسلام
عـيـن العـنـاية والـحقيـقة كنزها == شمس الشريعة ضوء كل ظلام
… الخ
ومن شعرهن قول خديجة بنت أمان الجكنية في مدح الشيخ أحمد أبي المعالي:
سلام علا فوق العلو ارتفاعه == ينال به كل المنى بتمام
إلى من رمى نحو السماء سهامه == فصاد المعالي رميه بسهام
أب للمعالي من صباه ولم يزل == كفيلا لها حتى سمت بفطام
وما زال يعلوها سموا ورفعة == إلى أن تخطى هامة المتسامي
… الخ
الشنقيطية عون على التعلم:
أن تسعى الأم في إعانة ابنها على طلب العلم فذلك أمر مألوف، وكثيرون من علماء هذا القطر العربي نالوا ما نالوا بسبب اعتناء أمهاتهم بتربيتهم ومد يد العون لهم بالمادة والدعاء حتى يدركوا المراتب العلية، ويرضيهن سفرهم في طلب ذلك، ورحمة الله على مولود حيث يخاطب أمه قائلا:
يا راكبا بلغ المكبولَ والدتي == لَعَلَّ أَمْريَ يُرضيها فتدعو لِي
أنِّي لَدَى ابنِ حبيبِ الله مُرْتجيا == مِن نَيْله ما ارْتَجَتْ مِصْرٌ من النِّيـلِ
ومن النادر أن تكون الزوجة في إعانة زوجها على طلب العلم بتلك الدرجة، وقد استوقفتني خلال مطالعتي لفتح الشكور للبرتلي صورتان لامرأتين كانتا عونا لزوجيهما على التعلم. ففي ترجمة الفقيه محمد بن علي بن الطالب أبي بكر الولاتي المحجوبي “أنه لما عجز في مرض وفاته عن إمساك الكتاب تمسكه له زوجته ينظر فيه، فإذا كمل وجه الورقة قلبتها له فينظر في الوجه الآخر منها”. وفي ترجمة أحمد بن العاقل أنه “ما اشتغل بالعلم إلا بعد التزويج، وأصلح الله تعالى له زوجه وكانت عونا له على تعليمه العلم”. وفي النفس شيء من قول البرتلي عن ابن العاقل: “ما اشتغل بالعلم إلا بعد التزويج”.
الشنقيطية والكتاب:
اقتنت المرأة الشنقيطية الكتاب كما كان يقتنيه الرجال، وطالعت كما كما كانوا يطالعون.
يقول الشاعر محمد بن أحمدونا الديماني متغزلا بمحبوبته المطالعة:
غزاني بجند الشوق ظبي رأيته == يطالع “حمادا على الغزوات”
حمدت إلهي إذ غزاني بجنده == وما كنت حمادا على الغزوات
ويقول فتى بن سيدي آمين في رثاء افطيم:
ولا يرى أحد يوما لها أثرا == في من يصاحبها ومن يصافيها
لكن من أخذ الكتْب الصعاب يرى == جديد آثارها فيها وعافيها
وفي الأزهار الندية للعلامة محمد يحيى ـ حفظه الله تعالى ـ أن مريم السالكه بنت هدّ أرسلت تريد من أحمد سالم بن نور الدين المجلسي إعارة كتاب “نور الأبصار” لمدة شهر الأبيات التالية:
شنف لأذنيَ يا خلي وأبصاري == بنيل عارية من “نور الابصار”
ولا تقصّـر لها واستبقها زمنا == إن كنت تبغي قضا حاجي وأوطاري
ورد عليها بقوله:
يا حاملا ألكة نحوي بالاشعار == قل للفتاة هداك الخالق الباري
خذي الكتاب على ما شئت من غرض == لكن غيبته كغيبة الفار
وفيه أن محمد عبد الله بن المصطفى (المعروف بعبد الله، بترقيق لام الاسم الأعظم وسكون الهاء) المجلسي بعث إلى أم البنين بنت امّيُّ ـ راغبا في إعارته شرح حماد على الأنساب ـ يقول:
إلى درة الأكوان في العجْم والعرْب == سلام يحاكي طيب مبسمها العذب
ويحكي اختلاس الطرف منها ولا أرى == كمثل اختلاس الطرف منها على القلب
فموجبه أني استعرت صحيفة == حوت ما حوت يا خود من نسب العرب
ولم أر فيها نبذة من أهمها == وها أنا من نقص الصحيفة في كرب
ألا فامنحيني نظرة في سجلكم == أداوي بها قلبا مشوقا إلى الكتب
ومدتها لو تعلمين قليلة == كعـشر ليال أو أقل بلا ريب
الشنقيطية المدونة (كناش السالمه نموذجا):
لم يكن التكنيش عند الشناقطة مقتصرا على جنس الرجال؛ بل إن من بين النساء عصاميات كانت لهن كنانيش حملت بين دفاتها الكثير والكثير من المعارف الإنسانية.
ومن أبرز تلك الكنانيش النسوية التي قدر لي الوقوف عليها كناش العالمة الصالحة: السالمة بنت العلامة الصالح عبد الرحمن بن العلامة الرباني المرابط محمذ فال بن متالي، التي يقول فيها ابن غلام وهو يبكي دور العلم:
خليلي هل بعد الثمانين للأعمى == بكاء على أطلال مية أو أسما
ولكنما أبكي ربوعا تنكرت == بها السنة الغراء قد دعمت دعما
ديار حبيب جامع العلم حولها == مدارس فيها فتية تدرس العلما
لهم همم من كل صوب أتت بهم == لنيل المعالي أتلفوا المال والجسما
ودُورِ فتاة جمة العلم تنتمي == إلى عابد الرحمن والدها الأسمى
والمطالع لهذا الكناش يخرج بجملة ملاحظات، منها:
1 ـ طول باع هذه السيدة في الاطلاع فهي تقتنص من مؤلفات عديدة محلية وغير محلية، قديمة وحديثة في عصرها.
2 ـ حرصها على تحصيل العلم، فهي تستفسر علماء عصرها عن كل صغيرة وكبيرة من مسائل العلم.
3 ـ تنوع موائد كناشها، ففيه الفقه والأصول والتفسير وعلوم الحديث وغيرها.
4 ـ حرصها أن تدون أجوبة العلماء لها بلغة حسانية سلسة، يستوي فيها العالم والجاهل.
5 ـ احتواء الكناش على كثير من الأنظام العلمية المعرضة للضياع بموت من يحفظها.
وبالخلاصة فقد كانت المرأة الشنقيطية مشاركة على جميع الأصعدة، ويكفينا النص التالي في إعطاء صورة عن نموذج تلك النساء، وهو قول الشاعر العلامة محمد بن الصوفي في رثاء ميمونة بنت العلامة الشيخ أحمد يعقوب بن ابن عمر الباركي:
فلما أن مضيتِ وذاك إمر == أتيح لكل مكرمة ذهاب
ولما أن ذهبت مضى المعالي == وولى المجد والكرم اللباب
نصاب المجد فزت به انفرادا == وياتي الساع إن كمل النصاب
وما شابت ليال أنت فيها == ولكن عم جملتها الشباب
وتبكيها المكارم والمعالي == وتبكيها القراءة والكتاب
فمن للضيف أو للوفد يؤوي == له بالبشر يتسع الجناب
ومن للجار حيث أبنّ حرسا == ومن يقري الضيوف بما استطابوا
ترى الفرش العتاق منمنمات == يسردق فوقها البيت الرحاب
كأن الشارعين عن الأواني == أوان مجيئهم عَكَر تهاب
لأضياف الشتاء تعد عفوا == إذا ما ضر باللبن السقاب
وياتي الوفد مكتئبا إليها == ويرجع ما عليه يرى اكتئاب
فمصباح البشاشة في اتقاد == وأدهان اللحام لها انصباب
فقبلك حاتم ما كان أثنى == فكان له إلى يدك انقلاب
ملحقات:
هذه وثائق ـ مجرد نماذج ـ تدل على اقتناء الشنقيطية للكتاب بشتى الوسائل: فقد كتبته لنفسها، وكتبه لها غيرها من أب وغيره، وورثته، وملكته في الصداق.
ـ الوثيقة الأولى بخط العلامة ألفغ الخطاط “آبيه”، وفيها نصيب خديجة بنت ألفغ أحمد، وهو: القسطلاني الأول، ونصف الخميس الأول، والشهاب، وسفر من شفاء الصدور لابن سبع، ونبذة في سفر منها شرح العبارة وأوراق نحوية، وابن القاصح ومتنه. (مصدرها: أخونا عبد الرحمن بن حمدي).
ـ الوثيقة الثانية بخط العلامة القاضي الطالب بن حنكوش: وهي تثبت أن اختصار شرح الصفدي على لامية العجم لمحمد بن أبي بكر البدراني، وكتاب الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم، وشرح المحلي على جمع الجوامع في أصول الفقه: صارت كلها بعد وفاة العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم من نصيب ابنته فاطمة. (مصدرها أخونا محمد يحيى بن احريمو).
ـ الوثيقة الثالثة بخط العلامة عبد الوهاب ابن اكتوشني، وفيها ذكر كتب أصدقها زوجته نفيسة، وهي: ستة أجزاء من القسطلاني، وثلاثة أجزاء من إحياء علوم الدين، وبداية الهداية، والنصح الأنفع، والمرادي، والترغيب والترهيب، والزاهر، والحماسة..”. (مصدرها أخونا سيدي أحمد بن الأمير).
ـ الوثيقة الرابعة: قصيدة بخط سيدي محمد بن أحمد لأخته في الله زينب بنت أحمد.
الوثيقة الخامسة: تثبت كتابة عبد الودود نظم الغزوات للبدوي لبنته مريم.
ـ الوثيقة السادسة: العقيدة الصغرى بخط بنان بن أحمد لأخته في الله وحبيبته أم يم بنت البار. (4/ 5/ 6/ مصدرها مكتبة تيشيت التي صور مركز جمعة الماجد).
ـ الوثيقة السابعة: نهاية نسخة من وسيلة ابن بونا بخط مريم السالمه بنت سيدي محمد بن المختار. (مصدرها مكتبة جامعة افرايبورغ الألمانية).
ـ الوثيقة الثامنة: الصفحة الأخيرة من شرح الحكم العطائية للشرنوبي، بخط عائشة بنت المختار بن أحمد ميلود الحاجية، كان الناس يقولون فيها: لو صح تولي القضاء للمرأة لتولته عائشة!
وقد كتبت في آخر هذه النسخة: انتهى والحمد لله على انتهائه، والصلاة والسلام على محمد وآله، على يد كاتبته لنفسها ثم لمن شاء الله بعدها عائشة بنت المختار بن أحمد مولود، أتحفها الله في الموعود، وغفر الله لها ولوالديها وأشياخها، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
وافق الفراغ منه عشية الخميس، آخر يوم من صفر سنة عشرين وثلاثمائة وألف من الهجرة، عرفنا الله خيرها ووقانا ضيرها. (مصدرها أخونا أحمد سالم بن باب).