حدثنا الدكتور عباس مقبول السوداني، وهو من طلبة العلامة آبَّ ولد اخطور، أن أولَ ما واجهه بعد خروجه من مطار انواكشوط، في أول زيارة لها بدايةَ التسعينيات، لافتةٌ تَحُثُّ المواطنين على الالتحاق بفصول محو الأمية!
قال: وقد استحوذ عَلَيَّ العجب من ذلك؛ إذ لم أكن أتصوّر أن يوجدَ في بلاد صاحب “أضواء البيان” أُمِّيّ؟!
لم يرتفع لهذه البلاد ذِكْرٌ، ولم يسمع بها العالَم إلا بسبب علمائها ومدنها التاريخية، التي طارت شهرتها إلى كل مكان، ولا يزال الآخَرون يعرفون نسبة “الشنقيطي” و”الولاتي” أكثر من معرفتهم لنسبة “الموريتاني”!
وما انفكّ سَدَنَةُ اللغة والآداب يعترفون بأستاذية العلامة محمد محمود ولد اتلاميد، الذي تَفَرَّدَ باللغة والأنساب في المشرق حين قدم إليه، ولُقِّبَ بـ”مصحح القاموس”، ولا يزال الْمُعَوَّلُ على نسخته منه..
بل يرى المستشرق الروسي “أغناطيوس كراتشكوفسكي” أن ولد اتلاميد كان مجددَ القصيدة التقليدية، ورائدَ المدرسة الإحيائية في الشعر العربي الحديث.
ولم يجد علامة سوريا، الأستاذ مصطفى السباعي، ما يَرُدُّ به إنكار المستشرقين لكثرة مرويات أبي هريرة رضي الله عنه، سوى ما كتبه أستاذه محب الدين الخطيب عن محفوظات أحمد بن الأمين الشنقيطي صاحب “الوسيط”، قال: «ونحن نعرف معرفةً شخصيةً الأستاذَ العلامة الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي رحمه الله، وكان يحفظ الشعرَ الجاهلي كله، ويحفظ شعر أبي العلاء المعري كله، ولو رحنا نعد ما يحفظه لكان شيئا عظيما، وكتابه “الوسيط في تراجم علماء وأدباء شنقيط” كَتَبَهُ من أوله إلى آخره من حِفْظِهِ إجابةً لاقتراح شيخنا الشيخ طاهر الجزائري، وفي هذا الكتاب أنسابُ أهل شنقيط رجالا ونساء، وذِكْرُ قبائلهم، وما نظموه، وما يُؤْثَرُ عنهم من مؤلفات وأخبار…».
وكان الشيخُ آبَّ ولد اخطور رائدَ النهضة العلمية الحديثة في الحجاز ونَجْدٍ، أحيا فيهما درسَ المنطق، ومَهَّدَ درسَ الأصول وَجَدَّدَهُ، وَبَثَّ علوما كانت مهملة قبله، منها أنسابُ العرب وأيامُها، باعتراف تلميذه بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله.
وإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ عدمُ سَعْيِ البلاد إلى خدمة هذا التراث، وعدم رعايتها له، رغم ما لَهُ ولِمُدُنِهِ من فضلٍ عليها وعلى سمعتها، ولا أَدَلَّ على ذلك من أن هذه المدن كانت قبل أقل من خمسين سنة تقريبا آهِلَةً بسكانها، مكتفيةً بذاتها، تُنْتِجُ طعامَها وأغلبَ حاجاتها بنفسها، لا تكاد تستورد من ذلك شيئا، وقد عجزت المليارات التي أُنفقت على مهرجاناتِها اليوم أن تعيد إليها بعض أهلها الذين هجروها، أو أن تَرُدَّهَا إلى حالة الاكتفاء الذاتي التي كانت عليها من قبل، كما لم يكن للاستثمار في طباعة المخطوطات وصيانتها، ودعم “المحاضر” وطلابها وشيوخها نصيبٌ في تلك المليارات!
لكن الأَهَمَّ حقًّا من إعمار المدن التاريخية وإعادة بنائها، إعادةُ بناء العلماء، واسترجاع النموذج الأصلي للعالم الشنقيطي الزاهد، الذي يثق الجميع بعلمه وورعه، ويعودون إليه في كل ما يُشْكِلُ عليهم من شؤون دينهم ودنياهم!