مقالات

حرمة المال العام بين الشريعة الإسلامية والقانون

إبراهيم الب خطري*

لا شك أن الاهتمام الذي توليه السلطات الموريتانية لمحاربة الفساد هذه الأيام ــ والذي جسدته حكومة الوزير الأول المختار ولد اجاي تطبيقا لبرنامج صاحب الفخامة، السيد محمد ولد الشيخ الغزواني ـــ يستحق التشجيع والإشادة، وتمشيا مع ذات النهج المتبع من قبل السلطات، رأيت أنه من واجبي كمواطن من جهة وكموظف للدولة من جهة أخري، أن أسهم بدوري ولو بشطر كلمة ـ وذلك أضعف الإيمان ـ في التنويه بحرمة المساس بالمال العام وضرورة صونه،
وقد سبق أن ذكرت في المقال السابق بعنوان ” الفساد الإداري رأس الفساد ” أن الكتابة عن الفساد متواصلة، وفضلت هذه المرة أن أواصل الموضوع من زاوية حرمة المال العام لكون المال بصورة عامة، أحد متعلقات الفساد الرئيسية ولأنه أيضا أحد الضرورات الخمسة التي أوجب الشرع حفظها.
ولئن كان الشرع قد أوجب هذا الحفظ في المال الخاص، فإنه لم يغفل شأن المال العام، بل إنه حض على حفظه وصونه من التلاعب الذي قد يتعرض له على يد من ائتمنهم ولاة الأمر والشأن، نجد ذلك واضحا من خلال العناية الفائقة التي أولاها سيد الإسلام صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الذي رواه مسلم عن عدي بن عميرة قال: ” سمعت رسول الله صلي عليه وسلم يقول: ” من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا فما فوق كان غلولا، والغلول هو الخيانة والسرقة. والتحذير من المساس بالمال العام لم يكن شأن الشريعة الإسلامية وحدها بل إن القوانين الوضعية أولته عنايتها أيضا، وفي هذا الإطار يندرج هذا المقال:
وقد اعتمدنا في معالجته على المزاوجة بين حقل الشريعة الإسلامية وحقل القوانين الوضعية وخاصة القانون الموريتاني، سبيلا إلى معرفة تصور كل منهم لحرمة المال العام، وعلى هذا فإن منهج المعالجة سوف يكون من خلال ثلاث محاور، المحور الأول: لمال العام في الشريعة الإسلامية
المحور الثاني المال العام في القانون الموريتاني
المحور الثالث توصيات ومقترحات للحفاظ على المال العام.

المحور الأول: المال العام في الشريعة الإسلامية
في هذا المحور ستكون لنا وقفات مع مجموعة من النقاط نسلط عليها الضوء، وتنحصر هذه الوقفات في أربع نقاط، النقطة الأولي تتعلق بمفهوم المال العام في الشريعة الإسلامية، النقطة الثانية خصائص المال العام في الشريعة الإسلامية، النقطة الثالثة صور الاعتداء على المال العام في الشريعة الإسلامية، النقطة الرابعة آلية حماية المال العام في الشريعة الإسلامية
أولا: مفهوم المال العام في الشريعة الإسلامية
لا يمكن أن نتطرق إلى مفهوم المال العام في الشريعة الإسلامية، إلا بعد معرفة مدلوله من الناحية اللغوية والشرعية، فالمال في اللغة كما عرفة ابن منظور، هو: “ما ملكته من جميع الأشياء، وجمعه أموال”، وكان في الأصل ما يتملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يصح اقتنائه، وإذا أطلق المال عند العرب قديما، فإن ذلك يعني الإبل، لهذا يقول عالم اللغة الخليل ابن أحمد الفراهيدي: ” المال معروف وجمعه أموال، وكانت أموال العرب أنعامهم “،
أما مدلوله من الناحية الشرعية، فيمكن اختصاره من تعريفات المدارس الفقهية المختلفة، فالمال مثلا عند الأحناف كما بينه السرخسي في مبسوطه هو: “اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا”، أو هو: ” ما من شأنه أن يدخر للانتفاع به وقت الحاجة، وهذه التعريفات تلخص نظرية الأحناف في التفرقة بين المال والملك، فالمال في نظرهم هو ما تمكن حيازته من الأعيان التي تصلح للادخار لأجل الانتفاع بها وقت الحاجة، أما الملك فيعني في نظرهم الحقوق والمنافع، ولا تعد أموالا عندهم. أما مفهوم المال عند جمهور العلماء (المالكية ـ الشافعية ـ الحنبلية) فيعني الأعيان والمنافع والحقوق، وكلها أموال عندهم، وقد نقل ابن شاس في كتابه عقد الجواهر الثمينة في فقه عالم المدنية عن ابن العربي قوله ” والصحيح أن المنافع أموال وأنها تضمن سواء تلفت تحت يد العادية، أو أتلفها المعتدي “.
فتصور جمهور العلماء لمفهوم المال أحسن في رأيي من تصور الأحناف له، فهو يسمح بتوسيع دائرة المال ليشمل أموالا ذات منفعة وقيمة لم تكن معروفة أصلا عند الناس، كحقوق الطبع والنشر، وحقوق الملكية الفكرية، والعلامة التجارية وبراءة الاختراع وغير ذلك من الحقوق المعنوية التي يعرفها أهل القانون.
وينبع هذا التصور من إدراكهم لأبعاد ثلاثة لا بد أن تتحقق في الشيء حتى يعتبر مالا عندهم، وهي: أن يكون الشيء منتفعا به، له قيمة عند الناس، ويكون الانتفاع به مشروعا.
أما مفهوم “المال العام” في الشريعة الإسلامية، فهو: ” المال المخصص لانتفاع أفراد الناس على سبيل العموم ” ومثاله الطرق والأنهار والمجاري وغيرها من الأموال المخصصة للمنفعة العامة، وقد رتب الشرع الحنيف على هذه المنافع العامة أحكاما شرعية، تقتضي عدم جواز التصرف فيها بيعا أو شراء أو هبة ونحو ذلك، لأن صاحب الملكية في هذه الأموال هو مجموع الناس، وتقع مسؤولية حفظ المال العام علي ولي الأمر (رئيس الجمهورية أو من يمثله)، فلا يمكنه صرفه إلا في وجه المصلحة العامة لرعاياه.
وانتفاع الناس بهذه الأموال يكون على شكل توفير خدمات عامة كالإنفاق على الصحة العامة، وبناء المساجد للتعبد والمدارس للتعليم وكالإنفاق على أمن الدولة ورعاياها، وإصلاح الأراضي للزراعة، وكالإنفاق على إنشاء المرافق العمومية المسئولة عن إيصال الحقوق والمستحقات.
ثانيا: خصائص المال العام في الشريعة الإسلامية
يتميز المال العام في الشريعة الإسلامية بمجموعة من الخصائص، تميزه عن المال الخاص المملوك بصفة فردية، ومن المهم إيراد هذه الخصائص ليتمايز كل منهما عن الآخر، وهذه الخائص هي كالآتي:
أـ المال العام في نظر فقهاء الشرع، لا يمكن لأحد ــ ولو كان السلطان (رئيس الجمهورية أو من يمثله) ـ أن يبرئ أو يعفو عمن لزمه ضمانه بإتلاف أو غصب أو غير ذلك من الأسباب المشابه التي تدخله في ذمة الغير، هذا بخلاف المال الخاص، الذي يمكن لصاحبه أن يسامح أو يعفو عمن أتلفه أو غصبه أو غير ذلك، فالحق في هذه الحالة يعود لصاحبه.
ب ــ الحجر لا يمكن أن يقع على المال العام، فلا يحوز لأحد له ديون علي الدولة، أن يحجر على ممتلكاتها من العقار والديون وغير ذلك من الأموال المنقولة وغير المنقولة.
وتفرق الشريعة الإسلامية بين الحجر علي الشخص والحجر على المال، فالأول هو الحد من أهلية الشخص قضاء، والثاني ــ وهو المقصود ــ هو عزل المال عن سلطة صاحبه تمهيدا لبيعه واستيفاء الدين منه، وهو المعبر عنه اليوم بالمصطلح القانوني المعروف: ب “الحجز القضائي”، وقد بوب عليه المشرع الموريتاني في قانون الإجراءات المدنية والتجارية والإدارية تحت الفصل الثاني من الباب الرابع، وتحديدا من المادة 323 وما بعدها في بابها. وهذا الحجز على الأموال، لا يتنافى مع مقتضيات الشريعة الإسلامية، لأنه يندرج تحت قواعد المصالح المرسلة، فهو إجراء استصلاحي ينظم الوفاء بالديون، والوفاء بالديون واجب شرعي، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
د ـ لا يسري حكم التقادم على المال العام، ـ وهو ما عبر عنه الفقهاء بوضع اليد على المال ـ وإنما يسري حكمه على الأموال الخاصة، ومدته بالنسبة للدعاوي المتعلقة بشأن المال الخاص، محددة في القوانين الوضعية على خلاف في المدة بين أنواع الحقوق التي يسري عليها التقادم، فمنها ما يتقادم بخمسة عشر سنة، ومنها ما يتقادم بمرور خمس سنوات وغير ذلك مما هو مبين بدءا من المادة 369 وما بعدها في بابها من قانون الالتزامات والعقود الموريتاني , والتقادم بالنسبة للشريعة الإسلامية لا يسقط الحق , اعتمادا علي قول عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ” الحق قديم لا يسقطه شيء ” و إنما تسقط المطالبة به.
واعتمادا على قاعدة المصالح المرسلة أيضا يمكن لرئيس الجمهورية إنشاء قوانين ومراسيم لا تقر بالتقادم المسقط والمكسب لأموال الدولة إن لزم الأمر.
ج ــ الأصل في الأموال العامة أنها لا تقبل التداول أي أنها لا تكون محلا لعقود التمليك بين الناس، وقد ميز الفقهاء في ذلك بين ثلاثة أقسام، قسم مخصص بذاته للمصالح العامة كالطرق والمساجد والمقابر والجسور والمستشفيات والمدارس وسائر المؤسسات العامة، وقسم موجه بموارده وغلاته لإصلاح جهة عامة، يتوقف إصلاحها على تعبئة موارد من قبل الدولة كبيت المال ، وقسم ثالث لا تتعلق به حاجات الناس ولا مصالحهم العامة، بل هو ملك الدولة من حيث أنها تمثل جميع رعاياها , كغلات بيت المال وغلات الوقف , والأراضي الموات , فالقسمان الأولان موقوفة رقابهما ومحجورة عن التداول , فلا تكون محلا لعقود التمليك , مع أن صفة العمومية يمكن أن تخلع عن القسمين الأولين في ظروف تستدعي ذلك شرعا , ويعود التقدير في ذلك إلي أولياء الأمر .
ثالثا: صور الاعتداء على المال العام في الشريعة الإسلامية
كثيرا ما يتعرض المال العام للاعتداء من قبل موظفي الدولة وغيرهم، وهي ظاهرة عرفت حتى في الدول الإسلامية ذات النظام والشوكة القوية، ففي أيام النبي صلي عليه وسلم و الخلافة الراشدية ، كانت محاربة الفساد المالي والتحذير من الاعتداء على المال العام هي الشغل الشاغل ، فقد حذر الني صلي عليه وسلم من المساس به و كتب أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب في ذلك الرسائل وأرسلها إلى عماله، فمن رسائله مثلا ” ألا إن الهدايا هي الرشا، فلا تقلبوا من أحد هدية”, وكان يحذر عماله من لبس رقيق الثياب و أن لا يغلقوا بابا دون حوائج الناس ولا يقبلوا هدية , وحين استعمل عتبة ابن كنانة , وجاء من ولايته ومعه مال , قال له عمر : ما هذا يا عتبة , قال : مال خرجت به معي فأتجرت فيه , قال ومالك تخرج المال معك في هذا الوجه فصيره عمر في بيت المال.
وقد تصدي علماؤنا الشناقطة إلى محاربة الظواهر التي تمس من الموظف العمومي كالرشوة مثلا , ومن أحسن من تصدي لتلك الظاهرة، الشيخ سيد المختار الكنتي، وابنه الخليفة الشيخ سيد محمد، فألف الأول كتابه المسمى ” البرد الموشي في قطع المطامع والرشا ” وألف الثاني كتابه المسمى ” علم اليقين وسنن المتقين بحسم الإتاوة المزورة بحق المستحقين”, وهذه الكتب ألفت للرد علي أحد ابرز قضاة أروان وهو القاضي سنبير ابن سيد الوافي الأرواني ــ صاحب كتاب “صنجة الوزان في نوازل أروان” ــ حينما صدرت منه بعض الأمور, اعتبرها الكنتي وابنه تجاوزا خطيرا يستحق الرد والتنبيه , ومع ذلك كانت هذه الكتب من أهم الكتب التي عالجت ظاهرة الرشا, وينضاف إليها كتاب العلامة محمد الكرامي ابن ما يأبي الجكني ” السيف المنتضي في تحريم الأخذ على القضاء” وهو كتاب جيد عالج فيه بعض ما ينسب للقضاة من أخذ الأجرة علي القضاء والفتيا .
وهنا نورد بعص صور الاعتداء التي قد يتعرض لها المال العام علي يد الموظفين العموميين:
ـ الاختلاس
يقصد بالاختلاس كصورة من صور الاعتداء على المال العام، استلاء الموظف علي المال العمومي بدون سند شرعي ويعد من الأكل الحرام , كما يعد صاحبه من أهل الغلول , فقد توفي رجل من أهل خيبر , فذكر ذلك للنبي صلي عليه وسلم فقال : “صلوا علي صاحبكم ” فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال : “إن صاحبكم غل في سبيل الله ففتشنا متاعه فوجدنا خرزا من خرز يهود لا يساوي درهمين ” , ويدل هذا الأثر علي حرمة الاختلاس سواء كان من قبل الموظف أو غيره , وتعد جريمة الاختلاس ضربا من ضروب الغلول الذي حذر الله تعالي منه ” وما كان لنبي ان يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ”

ـ جعل الوظيفة وسيلة للتربح
من أبشع صور الاعتداء على المال العام، ما يعرف باستخدام الوظيفة كوسيلة للتربح، ومن صورها وأشكالها أن يستغل الموظف وظيفته لعقد صفقات تجارية، وكثيرا ما ينسج الموظفون شبكة من العلاقات الداخلية، الهدف منها تسهيل الإجراءات البينية على حساب المواطنين، ومنها أيضا إفشاء أسررا الوظيفة وبثها بين بعض الأشخاص ليستفيدوا من هذه الأسرار ويتربحوا منها، وبذلك يكون الموظف قد اعطي فرصة وميزة لبعض الأشخاص على حساب آخرين.
فاستغلال المنصب من أجل التربح أمر لا يقره الشرع الحنيف، ولنا أسوة فيما فعله عمر ابن الخطاب حينما أرسلت زوجته أم كلثوم بنت علي , هدية إلى زوجة ملك الروم فردت عليها الأخيرة بهدية وقعت في يد عمر , فسأل عنها مبعوثه إلي ملك الروم , فقال : هي هدية لزوجتك أم كلثوم , فقد أهدت إلي زوجة ملك الروم حناء وطيبا فردت عليها بهدية من المجوهرات , فأخذ عمر الهدية وصعد المنبر , وقال أيها الناس: , قد بعثت برسالة إلي ملك الروم لأمر يخص المسلمين فأرسلت أم كلثوم معها هدية إلي زوجته , فردت عليها بهذه الهدية , فما رأيكم ؟ فقال: جل الحاضرين من الصحابة رضوان الله عليهم، إنما هي هدية بهدية، فقال عمر ولكنها استغلت رسول المسلمين، فوضع الهدية في بيت المال.
ــ استخدام الموظفين للأشياء الخاصة بالدولة
يكثر في الموظفين استخدامهم لوسائل الدولة لأغراضهم الشخصية، كاستخدامهم لسيارات الدولة في نقلهم ونقل أسرهم، وكاستخدامهم لهواتف الدولة لإجراءات اتصالات مطولة وغير ذلك من أجهزة الدولة وعتادها، وتعتبر تلك الاستخدامات من قبيل خيانة الأمانة المنهي عنها شرعا، فالموظف مستناب ووكيل عن الناس في أملاكهم، وعندما يستأثر بهذه الأشياء ويسخرها لخدمة أغراضه وأغراض أسرته، فإنه قد خان الأمانة.
ــ عدم اتقان الموظف لعمله
يؤدي عدم إتقان العمل من قبل الموظف إلى سوء الخدمة المقدمة للمواطن، ومن ثم يضيع المال العام المخصص لأداء تلك الخدمات، ويعود ذلك إلى أمرين: نقص الخبرة والكفاءة الفنية والإمكانيات، أو الإهمال والتعدي، وكلاهما يعتبر تضيع وإهدار للمال العام، وفيه أيضا مخالفة لأوامر الشرع فقد قال تعالي: ” إن اللذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ” وقد حث النبي صلي عليه وسلم على اتقان العمل فقال: ” إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه
رابعا: آلية حماية المال العام في الشريعة الإسلامية
أولت الشريعة الإسلامية عناية فائقة لحماية المال العام , يظهر ذلك جليا من خلال الأجهزة التي وضعتها سدا منيعا في وجه كل من يريد أن يعتدي علي المال العام , من ذلك مثلا : نظام الحسبة , ونظام البريد , وديوان المظالم , فعلي مر العصور يتعرض المال العام لصور من الاعتداءات تتطلب دائما تدخل الدولة بأجهزة تناسب نوع الاعتداء وتناسب أيضا شكل نظام السلطة الحاكمة , ولهذا سوف نري كيف كانت حماية هذه الأجهزة للمال العام في عهد النبي صلي عليه وسلم وفي ظل الدولة الراشدية , مع إيراد بعض الأمثلة من الحماية للمال العام.
أــ أجهزة حماية المال العام في ظل الدولة الإسلامية
تميز نظام الدولة الإسلامية في العصور الأولي بكثير من المميزات فيما يتعلق بحماية المال العام، وقد رأينا سابقا كيف شرع النبي صلي عليه وسلم لحمايته وكيف كتب عمر الرسائل إلى ولاته يحذرهم من المساس بالمال العام، ينضاف إلى ذلك أن الأمر لم يكن مجرد وعظ وإرشاد ونصح، وإنما صاحبته أجهزة صارمة وضعها النبي صلي عليه وسلم وسار عليها الخلفاء الراشدون، وأهم هذه الأجهزة جهازان هما:
1 ــ الحسبة
الحسبة نظام إسلامي أصيل , يحث علي القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وقد ظهر مع بداية الوحي للنهوض بالمجتمع الإسلامي بجميع أبعاده الدينية والأخلاقية والتربوية , وعرفها الإمام الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية بقوله: ” الحسبة هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله ” وكان المحتسب وهو المعين من طرف الحاكم , يقوم برقابة الأسواق لغرض التأكد من صحة المكاييل والمقاييس والأوزان, كما يراقب حركة الجند والجباة لئلا يحيدوا عن الطريق المستقيم وحتي لا يتغولوا علي الناس , وهي بهذا الاختصاص تعتبر أعلي هيئة رقابية عرفها المجتمع الإسلامي تمنع من حدوث أي انتهاك مالي و أخلاقي .
2 ــ ديوان المظالم
كان النبي صلي عليه وسلم أول من نظر في المظالم، وقد قال لأحد ولاته عند ما جاء بمال وقال هذا أهدي لي وهذا لكم قال صلي عليه: “اجلس في بيت أبيك أو أمك وانظر أيهدي لك ام لا؟”
ثم تطور هذا النظام بعده وحتى بعد الخلفاء الراشدين لما تجاهر الناس بالظلم والتغالب وتغول الحكام على الناس فاحتيج إلى تقويه هذا الجهاز، فكان أول من تصدي لحماية المال العام بقوة وصرامة، هو عمر ابن عبد العزيز الأموي، فرد مظالم بني أمية إلى أهلها، واستفتح ولا يته بتتبع أموال سليمان ابن عبد الملك، فبلغ ذلك مائة وعشرين ألف دينار وجمع ذلك كله ورده إلي بيت المال .
بل إن زوجته اخت سليمان، فاطمة بنت عبد الملك ابن مروان لم تسلم من هذا الإجراء، كان لها ثوب منسوج بالذهب منظوم بالدرر والياقوت قد عمله لها ابوها أنفق فيه مائة ألف دينار، فقال لها عمر رضي الله عنه: اختاري إما أن تردي حليك إلي بيت المال وإما أن تأذني لي في فراقك فإني أكره أن أكون أنا وانت وهو في بيت واحد، قالت: لا بل أختارك عليه وعلى أضعافه، فرده إلي بيت المال.
ب ـ نماذج من حماية المال العام في الشريعة الإسلامية
سبق وأن أعطينا نماذج من تعامل الني صلي عليه وسلم مع ولاته ورسله في إطار حماية المال العام، كما أعطينا نماذج من تعامل الفاروق عمر ابن الخطاب مع ظاهرة الاعتداء على المال العام، ولكن كل ذلك كان في معرض عرض صور من الاعتداءات على المال العام لم ترد بهذا الشكل
1 ـ في عهد الني صلي عليه وسلم
كان الني صلي عليه وسلم أشد الناس حرصا على حماية المال العام، لذلك وضع قواعد شاملة لحمايته، فحدد مصادر الإيرادات وكيفية تحصيلها، كما بين طرق الإنفاق وأحكامه وضوابطه ’ وكان يرسل الرسل إلى ولاته ليوضحوا لهم الاحكام والمبادئ الضرورية لذلك، وقد أوردنا قبل كيف حاسب أحد ولاته على الزكاة، لما قال هذا لكم وهذا لي، ويكون بذلك قد ضرب أروع مثال علي مراقبة المال العام ومحاسبة القائمين على تحصيله.
2 ـ في عهد ابي بكر رضي الله عنه
سار أبو يكر رضي الله عنه علي خطي النبي صلي عليه وسلم لا يميل ولا يحيد عنها قيد أنملة، لما قدم إليه معاذ ابن جبل قادما من اليمن بعد وفاة النبي صلي عليه وسلم، قال ارفع حسابك، فقال معاذ رضي الله عنه، أحسابان : حساب مع الله وحساب منك ؟ ثم حاسبه على الإيرادات والنفقات.
3 ـ في عهد عمر رضي الله عنه
يمكن اعتبار فترة عمر ابن الخطاب، فترة التدقيق ومحاسبة عمال الدولة علي النقير والقطمير، فقد كان رضي الله عنه شديد الرقابة على عماله وجريئا على محاسبتهم وعزلهم إذا تطلب الأمر ذلك، وكان من أهم الطرق التي انتهجتها سياسة في المحافظة على المال العام ما يلي:
ـ تطبيق نظام مقاسمة أموال الولاة إذا شك في أن ما كسبوه من مال كان بسبب كونهم ولاة، فيرد بعض أموالهم إلي بيت المال
ـ بث الرقباء والعيون لملاحقة الولاة
ـ كان يأمر الولاة بأن يدخلوا عند عودتهم إلي أهلهم نهارا، حتى لا يتمكنوا من إخفاء ما يحملونه
ـ حسن اختيار العمال كما كان يفعل النبي صلي عليه وسلم وأبو بكر
4 ـ في عهد عثمان رضي الله عنه
سار رضي الله عنه على منهج النبي صلي عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فقد بث الرقباء وسيرهم إلى عماله، ليكشفوا له احوالهم، وقد اعتمد في هذه المهمة على أهل الكفاءة والثقة، لكنه لم يكن بشدة وصرامة عمر رضي الله عنهم جميعا.
5 ـ على رضي الله عنه
كان على رضي الله عنه من حماة المال العام، ومما يؤثر عنه القصة المشهورة، قصة هروب مصقلة ابن هبيرة الشيباني، فقد استعمله على العراق وأخذ من خراجه ثلاثين ألفا، فكتب إليه ” بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أتيت شيئا إدا، بلغني أنك تقسم فيء المسلمين على اعراب بكر بن وائل، فإن كان حقا لتجدن بك علي هوانا.. ”
المحور الثاني: حرمة المال العام في مفهوم القانون الموريتاني
إن حماية وحرمة المساس بالمال العام، كانت من أبرز الأولويات بالنسبة للمشرع الموريتاني في الفترة الأخيرة، نلمس ذلك من خلال تعزيز الترسانة القانونية المتعلقة بمحاربة الفساد بشتى أنواعه، وكذلك الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد المصادق عليها بتاريخ 9 دجنبر 2010 وهي تعكس أولوية السلطات العمومية لمحاربة الفساد كأولوية في العمل الحكومي. وقد تضمنت هذه الإستراتيجية، بعض الأمور المهمة، نشير إلى جزء منها:
ـ تعزيز مكافحة الفساد والوقاية منه
ـ تشجيع النزاهة والمسؤولية والحكامة الرشيدة.
وللإحاطة بهذا المحور سوف نعالجه من خلال الأساس القانوني لحرمة المساس بالمال العام، كما سوف نعالجه من خلال آلية الرقابة على المال العمومي
أولا: الأساس القانوني لحماية المال العام
يكتسي المال العام أهمية قصوى في حياة الإدارة العامة، فإذا كانت الإدارة هي المسؤول الأول عن تطبيق كل البرامج الإصلاحية والإنمائية بالنسبة لكل دولة، فإن ذلك مشروط بتوفرها على قدر من المال يصطلح على تسميته بالميزانيات، ولا يمكن أن يكون متوفرا بالدوام إلا إذا كان مصانا وبعيدا عن التلاعب، وصونه يتطلب إصدار مجموعة من المقتضيات القانونية الخاصة بتوفير الحماية له، ومن خلال هذه الفقرة سوف نري المنظومة التشريعية الموريتانية الخاصة بحماية المال العام.
1 ـ على مستوي القوانين
ــ القانون رقم 2007 / 054 الصادر بتاريخ 18 سبتمبر 2007 المتعلق بالشفافية المالية للحياة العمومية
تنص المادة 2 من هذا القانون على إلزامية التصريح بالممتلكات، وتنسجم إلزامية هذا التصريح مع المادة 16 من قانون مكافحة الفساد، وتتعلق هذه المادة الأخيرة بالإثراء غير المشروع والتي تقول: ” يعاقب بالحرمان من الحقوق المدنية المنصوص عليها في المدونة الجنائية، كل موظف عمومي لا يمكنه تبرير الزيادة التي طرأت في ذمته المالية، مقارنة بمداخله المشروعة ” وهذه المقارنة لا يمكن أن تتأتى إلا من خلال إلزامية التصريح التي سبقت الإشارة إليها
ونشير في هذا الصدد إلى الحماية التي وفرها المشرع الموريتاني للشهود وللخبراء والمبلغين عن الفساد، فنص في المادة 19 من نفس القانون إلى أنه يستفيد من حماية الدولة الشهود والخبراء والمبلغون عن الفساد، وتنسجم هذه المادة أيضا مع المادة التي بعدها والتي تجرم عدم التبليغ الذي يتم الاطلاع عليه بحكم الوظيفة، وتعاقب عليه بالحبس من سنة إلى خمس سنوات، وبغرامة مالية تتراوح بين مائتي ألف أوقية إلى مليون أوقية.
القانون التوجيهي رقم: 2015 / 040 الصادر بتاريخ 23 دجمبر 2015 المتعلق بمكافحة الفساد
جاء في المادة 5 منه أن الدولة ” تسهر على استرجاع الأملاك والأموال المختلسة أو تلك التي تم الحصول عليها بصورة غير مشروعة وإحداث قطيعة مع الإفلات من العقاب من خلال ما يلي:
ـ وضع آليات عملية لمتابعة الملفات ذات العلاقة بالفساد والمخالفات ذات الصلة المحالة إلى الهيئات القضائية
ـ وضع آليات للتجميد والحجز التحفظي واسترجاع الأملاك الناتجة عن الفساد
ـ تعزيز التعاون الدولي في مجال استرداد الأموال العامة المنهوبة.
ـ القانون رقم :2016 / 014 الصادر بتاريخ ……
جاء في المادة 10 من القانون رقم 2016 / 014 المتعلق بمكافحة الفساد ” إختلاس الممتلكات أو إتلافها أو تبديدها بوسائل أخري من طرف موظف عمومي، يعاقب عليه بالسجن من خمس سنوات إلى عشر سنوات وبغرامة من خمس ملايين إلى عشر ملايين، كما يعتبر الشخص أو الموظف الذي يعمل الموظف لصالحه في الجريمة فاعلا أصليا إلى جانب الموظف العمومي
2 ــ على مستوي المراسيم
ـ المرسوم رقم 2007 / 207 الصادر بتاريخ 3 دجمبر 2007 الذي يحدد سير وتنظيم لجنة الشفافية المالية
جاء في المادة 2 منه أن مهام لجنة الشفافية المالية تتمثل في:
ـ تلقي تصريحات الملزمين بالتصريح طبقا للقانون رقم 2007 / 054
ـ ضمان متابعة وتسير ملف التصريحات بالممتلكات
ـ إعداد ونشر التقارير المشار إليها في المادة 11 من القانون رقم 2007 / 054
ــ المرسوم رقم: 161 / 2014 ينشئ لجنة لمتابعة تنفيذ الإستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد
تنص المادة الأولي من هذا المرسوم أنه ” طبقا لتوجيهات الإستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد، تنشأ لجنة لمتابعة تنفيذ الإستراتيجية لمحاربة الفساد يطلق عليها اسم ” اللجنة ” توضع تحت السلطة السامية لرئيس الجمهورية.
3 ــ على مستوي المقررات
ــ المقرر رقم 3418 الصادر بتاريخ 2014 يتضمن إنشاء لجنة على مستوي وزارة العدل مكلفة بتطبيق اتفاقية الأمم المتحدة حول ا لفساد
جاء في المادة 3 منه على أن مهمة اللجة تتمثل في إعداد تقارير تبين جميع الإجراءات القانونية والإدارية وغيرها التي تسهل تطبيق اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الرشوة طبقا للإجراءات التي تحددها
ــ مقرر مشترك بين وزير العدل ووزير المالية رقم 1025 صادر بتاريخ 23 دجمبر 2019 ينظم سير عمل لجنة الخبراء المكلفة بالتقييم الذاتي لاستعراض تنفيذ اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد
نصت المادة 2 منه تكلف اللجنة بإعداد تقرير التقييم الذاتي والتواصل مع الخبراء المقيمين والتحضير والمشاركة الفعالة في الزيارة القطرية بغية اعداد التقرير النهائي طبقا للإجراءات المحددة من طرف مؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد
ثانيا آلية: الرقابة على المال العام من خلال القانون الموريتاني
تعتير الرقابة على المال العام من أهم الأعمال الرقابية، فنجاعة العمل الرقابي تأثر إيجابا على المحافظة على المال العام، لذا سوف نتعرف هنا على مفهوم الرقابة المالية على المال العمومي، ونتعرف أيضا على المؤسسات الرقابية كل ذلك من خلال القانون الموريتاني.
أ ــ: مفهوم الرقابة المالية
يتلخص مفهوم الرقابة المالية، على أنها مجموعة من الإجراءات والوسائل التي يتم من خلالها مراجعة التصرفات المالية الصادرة عن الآمرين بالصرف، وتقييم أعمال الأجهزة الخاضعة للرقابة، والتأكيد من مستوي تطبيق الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد. وهذه المهمة تلازم نشأة الدول وامتلاكها للمال العام، لذلك حرص القانون الموريتاني كغيره من القوانين على إيجاد منظومة قانونية متكاملة تهدف إلى ترشيده وصيانته ليأدي دوره المطلوب المتمثل في نشر المنفعة العامة.
ويعتبر موضوع الرقابة على المال العام من المباحث التي يحظى بكثير من العناية من لدن الفقه الحديث، فقد أخذت المالية العامة جزءا كبيرا من اهتمامات فقهاء القانون، فاعتبروها منهج يتطلب التكامل والاندماج بين المفاهيم القانونية والاقتصادية والمحاسبية والإدارية.
ب: مؤسسات الرقابة على المال العام من خلال القانون الموريتاني
في إطار دعم الشفافية والحكامة الرشيدة سارعت الجمهورية الإسلامية الموريتانية إلى إيجاد مؤسسات رقابية قوية، كمحكمة الحسابات والمفتشية العامة للدولة، ويمارس هذان الجهازان وظيفتهما الرقابية طبقا للدستور وللقوانين والمراسيم المعمول بها في مجال الرقابة على المال العمومي، هذا بالإضافة إلى رقابة البرلمان من خلال لجانه الداخلية.
1: محكمة الحسابات
كانت الرقابة على المال العام تمارس بصفة مباشرة من طرف الدولة، طبقا للمرسوم 87 /29 الصار بتاريخ 3 مارس 1983 إلى غاية صدور المرسوم رقم 92 / 51 الصادر بتاريخ 15 / 06 / 1992 , الذي نقل تلك الرقابة إلي محكمة الحسابات فجاء في مادته الأولي ما يلي ” تلغي الرقابة العامة للدولة وتحال مخصصاتها في الميزانية ووسائلها الأخرى إلي محكمة الحسابات ” وقد تم النص علي محكمة الحسابات بموجب دستور البلاد الصادر بتاريخ 20 يوليو 1991 الذي نص علي انشائها في المادة 68 منه , وفي القانون رقم 019 / 93 الصادر بتاريخ 26 يناير 1993 المحدد لسير ونظام محكمة الحسابات نص علي أن وظيفتها ومهمتها هي الرقابة علي الأموال العمومية فجاء في المادة الثانية منه ” تتمتع محكمة الحسابات بوصفها هيئة عليا للرقابة علي الأموال العمومية باستقلالية مضمونة حسب الشروط المحددة في الدستور وفي هذا القانون” , فمحكمة الحسابات مهمتها الأولي والأخيرة هي التقييم والتدقيق المستمر حفاظا علي المال العام , وقد أوضحت المادة الثالثة من نفس القانون هذا الغرض فقالت : ” تساهم محكمة الحسابات بعملها الدائم والمنظم في مجال التدقيق والتقييم والإعلام والمشورة لتحقيق الأهداف التالية : ( حماية الأموال العمومية ـ تحسين طرق التسيير ـ عقلنة العمل الإداري )
2: المفتشية العامة للدولة
ساهمت المفتشية العامة للدولة في الآونة الأخيرة في كشف الكثير من الخروقات المتعلقة بالتسيير المالي، وقد تم إنشاء هذه المفتشية بموجب المرسوم 122 / 2005 الصادر بتاريخ 19 سبتمبر 2005 , وقد تم تعديل هذا المرسوم، بموجب المرسوم رقم 326 / 2018 الصادر بتاريخ 19 دجبمر 2018 , وقد جاء في المادة السابعة من هذا الأخير أن مهمة المفتشية العامة للدولة تتمثل في النقاط التالية:
ـ نشر الحكم الرشيد وتحسين أداء الإدارة العمومية وكذا علاقتها مع المستخدمين
ـ التسيير الجيد للشؤون المالية ومحاربة الفساد والرشوة ومختلف مظاهر التجاوزات ذات الطابع الاقتصادي والمالي
ـ تقييم السياسات والبرامج العمومية للرفع من مردوديتها وتحقيق الأهداف المنتظرة
ـ مراجعة الحسابات وما يمكن اسناده في إطار تسيير الشؤون المالية من خلال بحث ومعاينة التجاوزات في مجال التسيير واتخاذ العقوبات اللازمة.
من خلال عرض القوانين الناظمة لسير محكمة الحسابات والمفتشية العامة للدولة يتبين أنهما الجهازان اللذان يقع عليهما عبء المراقبة العليا للتأكد من مداخيل ومصاريف الأجهزة الخاضعة للمراقبة بمقتضي القانون.
المحور الثالث: توصيات يتتعلق بحماية المال العام
من المفيد جدا بعد هذا العرض المؤصل لحرمة المساس بالمال العام من الناحية الشرعية والقانونية ’ أن ندلي ببعض التوصيات المهمة للمحافظة على المال العام، هذه التوصيات منها ما يتعلق بالموظف العمومي، ومنها ما يتعلق ببيئة العمل، ومنها ما يتعلق بالمساطر القانونية والإدارية.
أولا: توصيات تتعلق بالموظف العمومي
من الضروري أن تتنبه الدولة إلي أن الموظف العمومي هو واجهتها وهو الأداة التنفيذية لسياساتها، وفي هذا الإطار عليها أن تهتم به من نواحي ثلاثة، وكلها مهمة لها وللمحافظة على مواردها المالية والبشرية، هذه النواحي منها ما يتعلق بالجانب التحفيزي، للموظف، ومنها ما يتعلق بالجانب التكويني للموظف، وكذا خلق بيئة ملائمة له تجعله يرتبط بالمرفق العمومي.
أ ـ الجانب التحفيزي للموظف
يكثر اعتداء الموظفين على المال العام لعدة أسباب، ولكن الأسباب التي ليست محل خلاف، تتمثل في شكاوى بعض الموظفين من ندرة التحفيزات المالية، وهو أمر يشكل عداء ونقمة من الموظف اتجاه المال العام واتجاه مرؤوسيه بل وحتى المرفق الذي يعمل فيه، وشكاواهم أيضا من عدم تقدير الإنجازات، وهو ما ينعكس سلبا على أدائهم الوظيفي وعلى هذا ينبغي للدولة أن تتنبه إلى هذه الجوانب
فالتحفيزات المالية على أنها من البواعث والمحركات لطاقته فهي تعفه وتلجمه عن شبهة المساس بالمال العام. كما أن تقدير الإنجازات مهم هو الآخر ويدفع بالموظف إلى مزيد من العطاء ويمنعه من الوقوع في المحاذير.
ب ـ الجانب التكويني للموظف
ينبغي للدولة أن تعمل على تطوير موظفيها، وتنفق عليهم لتطوير مهارتهم من خلال التكوين المستمر، الذي يجمع بين العمل والممارسة الميدانية، فالموظف يحتاج دائما إلى مراجعة سلوكه المهني، ليترفع منسوب ارتباطه بالمهنة التي اختار أن يخدم الدولة من خلالها، وحتى لا تغيب عن ناظره الأهداف العامة للمرفق العمومي، كما يكون على صلة دائمة بأهدافه الشخصية، وهذه أمور لا تتأتى إلا من خلال التكوين،
ثانيا: توصيات تتعلق بخلق بيئة عمل مناسبة
من المهم جدا أن يكون ارتباط الموظف بمكان عمله ارتباطا وثيقا لينعكس ذلك على أدائه الوظيفي، يشعر فيه بالراحة والأمان، وعلي الدولة أن تضاعف جهودها من أجل توفير جو يجعل الموظف يرتبط فيه بعمله ويستطيع القيام بأكثر،
ففي إطار محاربة الفساد وصيانة المال العام، من المهم أن تكون البيئة معينة، فكثيرا ما تكون بيئة العمل غير مناسبة ومشحونة بكثير من لمسلكيات الخارجة عن نطاق العمل اليومي، ولها تأثير بالغ على نفسية الموظف، وقد تدفعه أحيانا إلى ارتكاب جرائم بحق المال العام.
ثالثا: توصيات تتعلق بالقانون والمساطر الإدارية
أشير هنا إلى أنه من المفيد أن تكون محاربة الاعتداء على المال العام مرتكزة في أساسها على تفعيل القانون والمساطر الإدارية الأخرى، وهنا أقدم مقترحين في هذا الجانب، يتعلق الأول بتطبيق القانون، ويتعلق الثاني بوضوح المساطر الإدارية.
أ ـ تطبيق القانون
نعتقد أنه لا بد من تعزيز الترسانة القانونية، ويتطلب هذا من الدولة الرفع من مستوي قيمة محكمة الحسابات والمفتشية العامة للدولة من خلال التقارير التي يقدمونها والتي هي أساس إثارة الدعوي العمومية من طرف النيابة العامة
ب ـ وضوح المساطر الإدارية
تعقيد الإجراءات والمساطر الإدارية من مظاهر البيروقراطية، وفتح المجال أمام الكثير من المسلكيات المشينة، وبالتالي يجب علي الدولة تجاوز هذه النقطة، فعليها حصر الإجراءات وجعلها في سجل خاص يطرح أمام المواطنين ليطلعوا عليه، وليتمكنوا من خلاله من الولوج إلى المعلومة الصحيحة.

———————‐———–

*إطار في وزارة الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي
باحث في القانون والدراسات الإسلامية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى