عندما يدبر الخريف ويقبل الشتاء.. هنالك تحلو اللحوم ويسهل ادخارها دون تعفن، وكان ذلك يتم بعدة طرق منها:
1. الذبح.
2. النحر.
3. وَنگاله / الونگاله.
4. المُشارْيَه.
وكان من المأثورات (في منشئي على الأقل) أن اللحم – باعتبار قيمته الصحية والغذائية- ثلاثة أقسام: لحم، ونصف لحم، وغير لحم. (يعنون بالأول القديد، وبالثاني الشواء، وبالثالث الطبيخ).
قد يذبح أهل البيت شاة، ويفعل آخرون مثل ذلك وآخرون مثله.. ومن لم يمكنه الذبح نال نصيبا من لحوم الأقارب والجيران، وبذلك يعم اللحم الحي. وقد تنحر دابة كبيرة أو تذبح من طرف واحد أو باشتراك عدة أطراف حسب نسب متساوية أو متفاوتة يُتَّفَق عليها فيدفع كل من الثمن ما يقابل حصته من اللحم، فإذا كان الحي صغيرا أو المعني واحدا أو اثنين، أو كانوا أكثر لكنهم كسالى نحروا عند الحي ولم يبد في الأمر ما يلفت الانتباه.
إلا أن هذا العمل (النحر) كان يجري في الغالب بعيدا عن الحي استبقاء للحم، ولم أشارك فيه خارج الحي، وإن كنت أعرف أن “النحارة” يتخيرون واديا أو غابة أو تلعة يحملون إليها الماء والشاي الكافيين للمدة المزمع بقاؤها، والأدوات الضرورية للمهمة، ثم ينطلقون إليها بقِطْعٍ من الليل فرادى ومثنى وثلاث، ويمكثون هناك يومين أو ثلاثة قدر ما يتطلبه التشريق (“تصليح” اللحم) ويعودون بأثواب دسمة وأجسام نشطة وأذهان صافية؛ مصحوبين بالقديد الذي قارب الجفاف، وهنا ينتهي الحرص المؤقت، فيعم اللحم الحي؛ وقد يجتمع لبيت لم يشترك في العملية من هنا وهناك ما يفوق نصيب شريك!
وكان أهل المروءة يأنفون من المرور بقرب “النحارة” ومن كل ما قد يفسر بأنه تعرض لطعامهم، ولكن آخرين كانوا يبحثون جاهدين عنهم، وربما اهتدى أحدهم إليهم فلم يجدوا بدا من إنالته التي قد لا تخلو من منغصات خفية.
أذكر أن شخصا لاحظ اختفاء مجموعة من الشباب فاستنتج أنهم “نحروا” فبحث عنهم حتى وجدهم كما صورهم له حدسه، فسقوه الشاي وأطعموه وأعطوه لحما وعند ما ودعهم قال له بعضهم: “مرحب بالملائكه ال اعْلَ أكتافك”. وهو تعبير عن عدم الترحيب بالمخاطب؛ حيث يقتصر الترحيب على الحفظة الكرام عليهم السلام.
المهم أن الرجل عاد مثنيا على الشباب؛ ناشرا معروفهم المادي وبِشْرَهم الذي وصل إلى الترحيب بـ”الجن” الذين معه على حد وصفه!
وكان “النحارة” يعجلون بوجبة تطبخ فيها مزع غير مصنفة، وتسمى “التگليبه”. وأثناء مُقامهم في مهمتهم “يتفكهون” بالأرز الأبيض. ويجدون فراغا يسدونه في النهار بالألعاب الجسدية من مصارعة وكرة وغيرهما، وبالذهنية من “ظامه” وأوراق وغيرهما. أما في الليل فيخلو المجال للجانب المعرفي من إنشاد وإنشاء قد يكبحهما وجود كبير بين القوم فيقتصران على ما يناسب المقام أو يتحولان إلى مذاكرات علمية.
تكون خطوة “النحارة” الأولى تشذيب شجرة ظليلة تقام حولها حظيرة من الأشجار المقطوعة لحفظ اللحم من الذئاب وغيرها من اللواحم التي لا يجرؤ الجبناء على النوم قريبا من اللحم خوفا من أن “ترق لها الزريبة” من ناحيتهم.
أما “الونگاله” فكانت موسما مميزا في حياة البدو؛ حيث ينتدب سبعة أفراد في العادة، وقد يكونون أقل، وقد يجتمع شريكان في سهم واحد ويسميان بـ”الرديف” وأكثر المقبول ثمانية، ولكن ربما انتدبت مجموعات أخرى بالتزامن أو التفاوت؛ مشكلين فرقا.
يقوم نظام “الونگاله” على أن يذبح كل من الشركاء شاة يوما. ويعبرون عن بدايتها بقران الرؤوس. وفرارا من الربا الناشئ عن التفاوت الذي لا مناص منه بين شاة وأخرى كان أهل الورع يقوّمون كل شاة على حدة لتحديد الفرق الذي ينبغي دفعه بين كل شاتين ومن طرف من، وإلى من.
تحبس الشاة المزمع ذبحها بالفِناء عن الماشية صباحا، وعند ارتفاع الضحى يذهب الشركاء بها إلى مكان محدد سلفا حاملين المواسي وماء قليلا، يكفي لغسل الدم المسفوح. وهناك يتوزعون على جزئيات المهمة؛ بين ذابح، وسالخ، وجامع للحطب، وممهد لمكان الشي، وقاطع للأغصان التي يوضع اللحم عليها أثناء التقطيع وعند الإخراج من “الحفرة” بعد الشي. وتلطيفا للجو يسود المرح والمزاح في أثناء ذلك في حدود الأدب.
الأغلب أن يكون الجميع سواسية في العمل؛ فلا فرق بين كبير وصغير، ولا بين صاحب الشاة وغيره؛ وإنما يقوم كل امرئ بما يتقنه. وأذكر أني في أول “ونگالة” أخرج فيها مع الرجال (1977) قمت بإعداد الأحشاء من حوايا (دوارة) وأمعاء دقيقة (تمناط لمصارين) وأخرى غليظة (لمگاليب) وما بينهما مما يكون حشوا للمصارين عند لفها على الطريقة المعروفة. (اتمصرين).
قمت بذلك بشكل متقن دون سابق ممارسة وحرصت على نظافته فكان نصيبي من عمل “الونگاله” عامين أو ثلاثة، وكان يمكن أن يظل الحال كذلك لولا أن شاركت في “ونگالة” مغايرة لما ألفته، فرأيت صاحب الشاة هو من يعمل في يومه بمفرده بينما يبقى الآخرون متفرجين بانتظار أسهمهم ناضجة! عامها قررت أن لا أختلف عمن معي، وأن لا أستعين بأحد، وحين جاء يومي صنعت مثلما صنع غيري، ولم أجد صعوبة في غير السلخ؛ وهي صعوبة تغلبت عليها بفتح الجلد طولا وسلخ شاتي كما تسلخ الإبل والبقر. وبعدها واصلت التمرن حتى لم أعد أجد صعوبة في السلخ.
أذكر أننا كنا بالبادية عام 2013 وفي أحد الأيام زارنا اثنان من أفاضل الأقارب أحدهما أسن مني والثاني شاب، وكان الوقت عصرا فلم يكن هناك من يوكل إليه بعض الأمور، وحين خرجت للذبح وإعداد اللحم خرج معي الشاب الحبيب وطلب مني سرا أن أدع المهمة له، فقلت له: إني أمهر فيها منك ولكن تولّ إعداد الشاي واحمل كأسي إلي هناك (مشيرا إلى حيث سأكون).
وحين جاءني بكأس من الشاي (لعلها الأولى) بعد حوالي 15- 20 دقيقة كان كل شيء قد انتهى فحمل اللحم معي واستكملت الشاي في الخيمة مع الجلساء.
في المكان المعد للشي توضع كومة من الحطب الغليظ فتوقد حتى يصلح موضعها لإنضاج اللحم، وعندما يستحيل الحطب جمرا تشوى الفراسن والكبد والقلب والكليتان والأمعاء الغليظة ونحو ذلك في وجبة معجلة (أفشاي) توزع حسب سهام “الونگاله” نفسها، فتزيل ما سبقها من عناء، ريثما ينضج باقي اللحم الذي يكون عند ذلك قد وضع في “الحفرة” وأعيدت المَلة (آرُكال) عليه، وربما أوقدت النار فوق ذلك لضمان إكمال النضج.
وحده الرأس كان يعرّض للهب حتى يضمحل جلده ثم يدفن في المَلة كسائر اللحم.
من المشهور أن “عظام” الشاة (أعضاءها العظمية) 28 على عدد سور الحزب الستين من القرآن العظيم (حزب سبح) وهو تقسيم بعضه طبيعي وبعضه عرفي وبعضه وظيفي.
حين ينضج اللحم يستخرج بعود صالح للمهمة يسمى “الشواي” و”آسكنف” ومن الأمثال الشعبية “ال اجبر شواي ما تنحرگ أيدُ”. ويقولون عمن دُفع إلى ما يضره وقاية لغيره إنه “مسكنف” لكذا.
يأخذ هذا العودَ ذو قوة جسمية فيضعه في ملتقى عظام الحوض حيث كانت المثانة من قبل، ويرفعه من الأرض ويحركه في الهواء برفق فيتساقط عنه التراب، وربما أكمل بعض الباقين المهمة بالعشب أو الحشيش أو غصينات النبات الناعمة.
وعندما يبدأ التقطيع يسيل الماء فوق اللحم فربما ارتشفه أحدهم بأنبوب معد لذلك؛ قد يكون من النباتات القصبية، وكثيرا ما يكون من عظام الشاة ذاتها. وكنت أرى في بعض الوجوه استهجانا لذلك.
تنقسم أجزاء الشاة إلى ركائز وعلاوات؛ فالركائز الطبيعية ثمان: الرأس، والرقبة مع الكرش وما تعورف على جعله فيه، والكاهل (المحرد) والظهر والوركان والكتفان، ومع كلٍّ ما جرت العادة بكونه معه؛ حتى أصبح مع الزمن عرفا منصفا وشبه متساو. فإن كان الشركاء سبعة حذف الكاهل -أو الرأس- وحول إلى علاوة.
كان الظهر أفضل الأنصباء يليه الوركان إن كانت الشاة ضأنا، وإلا فالكتفان. وجرت العادة بكون نهاية الأضلاع (الشاكله) وما تعلق بها من جلد التجويف البطني عضوا عند تجزئة الذبيحة، تليها لبجاويه، ثم ويلْهَ، ثم بكله. الأولى والأخيرة أربعة ضلوع والوسطيان ثلاثة ثلاثة. وإذا كان المجَزِّئ يخشى الخطأ فإن الطرف الأمامي “للشاكلة” يحدد مفصل الظهر مع الكاهل (المحرد) لذا يفصلهما قبل إبانتها. وقد تترك إحداهما عالقة بالظهر بالنظر إلى حتمية كونها من علاواته، بينما تذهب الأخرى إلى الرقبة التي كانت أسوأ الأنصباء على الإطلاق. وكثيرا ما أنشدوا قول امحمد بن أحمد يوره رحمه الله:
يا رب إن كنتُ من أهل الوناگيل ** لا تحرمَنِّي لذيذات الشواكيل
والظهر والكِتْف إن كانا ذوي شحم ** والرگبَه والكرْشَه لا تجعلهما ليلي.
عند إتمام التجزئة والتأكد من تساوي الأنصباء يتنحى أحد المشاركين أو يشيح بوجهه فتؤخذ أشياء بعدد المشاركين (غالبا ما تكون عيدانا) يتعمد كونها متباينة فيسمى كل منها باسم أحد الشركاء ثم يأتي الشريك المتنحي فيضع كلا على نصيب ولا يشكو أحد ولا يستاء لأنها قرعة! ومن أمثالهم أن من أبكاه سهمه فلا مصمت له (ال بكاه عودُ يبكي).
من هذه القرعة وما شابهها دخلت تسمية النصيب في الحسانية بالعود كما سمي في الفصحى بالسهم لأن القوم كانوا يقترعون بسهامهم أيضا.
عند تحدد الأنصباء يبدأ كل بالأكل والإطعام من حصته وقد يصطحب المرء ضيفا أو صديقا أو ابنا أو من في معناه لإطعامه في عين المكان استكمالا للمتعة. وكان المراهق الذي لا يأكل “ركيزة عوده عند الحفرة” يذم بذلك على وجه التنشئة والإرشاد لبناء الجسم.
وكان من الوقاحة – في محيط نشأتي على الأقل- استعمال النخاع العظمي (المخ) بحضور كبير، كما كان من المقولات المسلمة أن من أبوه حي لا ينبغي له أكل الطحال. فكان الجهل يحمل البعض على تجنب هذا العضو البريء والتشاؤم بأكله حرصا على حياة أبيه! وسمعت من قال إن أصل هذا ضعف الأكابر وغنى الطحال؛ فمن المطلوب إيثار الآباء به لخفته الكمية وقلة ما يتطلبه من مضغ، ومع الوقت تحولت النصيحة إلى خرافة مسيطرة. والله أعلم.
عند الظهر أو قربه يعود “المونگلون” حاملين بعض أنصبائهم أو جلها حسب إرادة كل منهم، فيطعم الأهل والجيران ويحلو الشاي وبعد ساعة ينهض القوم إلى مهمة أخرى فمن المأثورات غير المؤصلة “ما خلق الله الرجال إلا للموت والتعب”!