خطر ببالي أن طريق الأمل استعجل الانحرافَ إلى مدينة كيفه قبل أن يصل إلى قرية “الغِرْدْ”.. لكن بذور القمح، التي بهرتها قوة عزم نساء القرية وإصرارهن، أبت إلا أن تواصل رحلتها إليهن؛ لتعانق في تلك الحقول الشاسعة الخصبة أَيَادٍ سمراء متعبة في سبيل الحياة والنماء!
في الوقت الذي تتصاعد فيه أسعار القمح عالميا، مع تصاعد حِدَّةِ الحرب في أوكرانيا، وترتبك الحكومات فزعا من شُحِّ التموين الغذائي الماثل في الأفق، تكافح عشرات النسوة في سفح الجبل، في مجرى سد “أهل عيسى بوب” بسواعدهن الشريفة لتأمين غذائهن من القمح، متحديات الظروف القاسية.
يقع “سد أهل عيسى بوب” في قرية “الغرد”، التابعة لبلدية “انواملين”، قريبا من الحدود الشرقية لمدينة انتاگات بمقاطعة گرو، ويعتمد سكانها من شريحة “لحراطين” خصوصا على ما تجود به حقولهم الزراعية من خيرات مختلفة، فمنها يأكلون ويبيعون…
ورث السكان عن آبائهم زراعة “الذرة” (ازْرَعْ ومَكَّه)، ولكن بعد أن اكتشفوا قبل سنوات أن أراضيهم صالحة لزراعة القمح (أَحد أهم المحاصيل الزراعية على كوكبنا بعد الذرة والأرز)، وأن زراعته أسهل بكثير من زراعة الذرة حسب قولهم، قرروا التركيز عليه، وبالفعل حقق البعض منهم اكتفاء ذاتيا من هذه المادة بنسبة كبيرة.
بداية الفكرة
تقول الزينه بنت عبد الله إن البداية كانت قبل 7 سنوات أو أكثر، عندما جلب أحد رجال القرية، ويدعى الناجي، البذورَ من منطقة “الدحارة”، “ووزعها علينا، ولم يكن نصيب الواحدة منا أكثر من كأسين، ولكن كانت التجربة ناجحة، وفي السنة الموالية اشتريناه من السوق، وأصبحت زراعة القمح من الأولويات عندنا”.
وتضيف أن “قمح “أشيلاي” المحلي أفضل من المستورد، وأزكى عند الطبخ؛ فالقليل يكفي لإعداد وجبتين أساسيتين، فمَفْرُومُهُ نصنع منه “كوران”، ودقيقُه نُعِدُّ منه الكسكس”.
وتؤكد الزينه أن إنتاجهم من القمح يشهد إقبالا كبيرا، وأن طلبات كثيرة له تصلهم من المعارف والأقارب في نواكشوط، ومن كل من يُدرك قيمة “أشيلاي” الغذائية، حسب تعبيرها، وتقول إن سعرَ مُدِّ حصادِهم من القمح يتراوح بين 2000 إلى 2800 أوقية قديمة.
وتختم حديثها إلينا قائلة: عندما أنتهي من عملية الحصاد أوزع نصيبي إلى ثلاثة أجزاء، جزء أدخره لنفسي، وجزء أبيعه، وجزء أحتفظ به لزراعته في الموسم المقبل.
عملية الحصاد
عندما تَذْبُلُ السنابل وتَصْفَرُّ مائلة إلى لونها الذهبي الشهير؛ يتنادى سكان القرية مع بزوغ شمس كل يوم، متجهين إلى حقولهم، إيذانا ببدء يوم جديد من عملية الحصاد الشاقة، التي تستمر طيلة النهار، فبعد أربعة أشهر من إيداع البذورِ بَطْنَ الأرض المِعطاء؛ ها هي اليوم تدعوهم إلى حصد ما أودعوها أضعافا مضاعفة.
أغلب العاملين في هذه الحقول من النساء، وما زالت عملية الحصاد كما هي منذ مئات السنين: يقطعن رؤوس السنابل، ويلقين بها في حاويات، لِتُفْرَغَ فيما بعد على بساط، قبل أن يجتمع عليها عشرات الشباب يضربونها بالعصي، ولفصل حبوب القمح عن باقي أجزاء السنبلة بشكل كلي؛ تَذْرُو النساءُ الهشيمَ في الهواء الطلق لِتَنْقِيَةِ الحَبِّ “الثمين” مما عَلِقَ به من شوائب.
تشكو “الحُبْسْ”، وهي مزارعة ستينية لا تعلم على الأرجح أن العالم احتفل قبل أيام بالعيد الدولي للمرأة، من أن عملية الحصاد شاقة، وتحتاج وقتا طويلا يزيد على الشهر، وتؤكد حاجة النساء إلى دَعْمٍ يشجعهن على المواصلة، وتطالب بتوفير آلات حديثة توفر الجهد والوقت، وتجدد الشكوى من غلاء البذور، قائلة إنهم يشترون مدها بـ 3000 أوقية.
كميات الإنتاج
تقدر المساحة المزروعة من القمح في سد “أهل عيسى بوب” بهكتارين أو أكثر قليلا، ينبسطان على مد البصر، وتنشط فيهما عشرات النسوة اللاتي اقتسمنهما قسمة متفاوتة، فتفاوتت بسبب ذلك كمية الحصاد التي تنالها كل واحدة منهن، لكنهن يقلن إنها تتراوح عادة بين 30 و70 مدا في “الدَّبْزَة” الواحدة، وقد تصل أحيانا إلى 100 مد. (المد يساوي 4 كيلوغرامات أو أكثر قليلا، والدَّبْزة كُومَة محددة من السنابل).
وتتوقع النسوة أن يصل إنتاج الموسم الحالي، حسب المعطيات الأولية، إلى أكثر من طُنَّيْن.
تعتبر لعصابة ثاني أكبر مناطق الزراعة المطرية الصالحة لزراعة القمح؛ إذ تقدر المساحات الصالحة لزراعة القمح فيها بـ 300 هكتار، وهي بذلك تلي تگانت التي ترتفع فيها المساحة إلى 1200 هكتار.
وقد بلغ إنتاج لعصابه من القمح في عام 2016، حسب تقرير سابق لوزارة الزراعة، 77 طنا، حلت بسببه في المركز الثالث من حيث الإنتاج بعد تگانت، التي أنتجت أكثر من 1000 طن، والحوض الغربي الذي أنتج أكثر من 240 طنا.