السلام على بهجة الدنيا ورحمتها؛ وشفيع الأخرى ووجيهها..
السلام على سُلطان أرواحنا، المنقذ من الضلال، المُرشد من الحيرة، الهادي إلى الفلاح.. محمد منور القلوب وكاشف الكرب لدى الكروب وبعد سادتي القرّاء:
تابعتُ بشغف وحُب كيف كان الناس يستسقون بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياة جده عبد المطلب وبعد ذلك في حضن عمه أبي طالب؛ ثمّ شاهد بركةَ دعائه وسرعةَ إجابته الصحابةُ بعد البعثة في مكة والمدينة وأسوق بعضا من ذلك استمطارا لفضل الله واستنزالا لرحمته:
روى البخاري عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر أنه سمع أنس بن مالك يذكر أن رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما فقال يا رسول الله هلكت المواشي وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا قال فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئا، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار قال فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت.
قال: والله ما رأينا الشمس ستا، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله قائما فقال: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها،قال فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والجبال والآجام والظراب والأودية ومنابت الشجر، قال: فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس، قال شريك فسألت أنس بن مالك: أهو الرجل الأول قال لا أدري.
وفيه أيضا عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه قال سمعت ابن عمر يتمثل بشعر أبي طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ** ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وقال عمر بن حمزة حدثنا سالم عن أبيه: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فما ينزل حتى يجيش كلُّ ميزاب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ** ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وهو قول أبي طالب.
فقد أخرج ابن عساكر عن جُلهمة بن عُرفُطة قال: قدمت مكة، وهم في قحط، فقالت قريش: يا أبا طالب، أقحط الوادي وأجدب العيال، وأنت فيهم أما تستسقي؟ فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجن تجلت عنه سحابة قتماء، وحوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ الغلام بأصبعه وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من ههنا وههنا، وأغدق السحاب واغدودق، وانفجر له الوادي وأخصب النادي والبادي، وفي ذلك يقول أبو طالب:
وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه…
وفي حياة عبد المطلب تتابعت على قُريش سنون ذهبت بالأموال وأشفين على الأنفس، فرأت رُقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف في منامها وسمعت قائلا يقول: يا معشر قريش إنّ هذا النبيّ المبعوثَ، وهذا إبّان خروجه وبه يأتيكم بالحيا والخصب، فانظروا رجلا من أوسطكم نسبا، طُوالا عُظاما، (أي طويلا بالغا)، أبيضَ مقرونَ الحاجبين، أهدب الأشفار، جعدا، سهل الخدين، رقيق العِرنين، فليخرج هو وجميع ولده، وليخرج منكم من كل بطن رجل، فتطهروا وتطيّبوا، ثم استلموا الركن، ثم ارقَوا إلى رأس أبى قبيس، ثم يتقدم هذا الرجل فيستسقي وتؤمّنون، فإنكم ستُسقوْن، فأصبحت فقصت رؤياها عليهم، فنظروا فوجدوا هذه الصفةَ صفةَ عبد المطلب، فاجتمعوا إليه وخرج من كل بطن منهم رجل ففعلوا ما أمرتهم به، ثم علوا على أبي قبيس ومعهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام، فتقدم عبد المطلب: وقال لا هم هؤلاء عبيدك وبنو عبيدك وإماؤك وبنات إمائك، وقد نزل بنا ما ترى وتتابعت علينا هذه السنون، فذهبت بالظِّلْف والخُفّ والحافر، وأشفت على الأنفس فأذهب عنا الجدب وائتنا بالحيا والخصب، فما برحوا حتى سالت الأودية وبرسول صلى الله عليه وسلم سقوا، فقالت: رُقَيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف، والخبر في عيون الأثر والطبقات وغيرهما:
بشيبةَ الحمد أسقى الله بلدتنا ** وقد فقدنا الحيا واجلوّذ المطر
(أي امتدّ وقت تأخره وانقطاعه)
فجاد بالماء جَونيٌ له سبَلٌ
(أي مطرٌ جود هاطل)
دان فعاشت به الانعام والشجر ** منًّا من الله بالميمون طائره
وخير من بُشّرت يوما به مضر ** مبارك الأمر يُستسقى الغمام به ** ما في الأنام له عِدلٌ ولا خطرُ.
ولا عجب فرسول الله فاتح أبواب الخير، ميمون العطاء؛ مُنهمر النوال، عظيم البركات..
هذا رسُولُ اللــه شافِعُ أُمّةٍ ** ومُجيرُها من غَضْبةِ القهّارِ
هذا رسُولُ اللــه فاتحُ رحمةٍ ** عمّ الأنامَ بجُودِه المدرارِ
هذا رسُول الله أبلجُ ضاحِكٌ ** متهللُ الإشراقِ والإسفار
هذا محمدُ والنفُوسُ فداؤه ** بالمالِ والأهلينَ والأعمارِ
فعليه ملءَ الأرضِ ملءَ سمائِها ** صلواتُ ربٍّ ماجِدٍ غفّارِ
وأريجُها الفوّاحُ يشمل آله ** والصحبَ بالإجلال والإكبارِ