تخلد بلادنا هذه الأيام الذكرى ال61 لعيد الاستقلال الوطني، الذي يعني لبلادنا التحرر من أسر الاحتلال الأجنبي ويعني لها – أيضا – الرحيل من مجتمع البداوة إلى مجتمع الدولة، فالحرية والتمدن نعمتان عظيمتان كما أشار لذلك النبي الصالح والملك الصالح يوسف عليه السلام: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ).
إن أهم مكسب تحقق لبلادنا بعد رحيل الاستعمار هو قيام الدولة المركزية في هذا الفضاء الجغرافي والاجتماعي الذي ظل مستعصيا على قيام الدولة ونصب الإمام.
وتمثل الذكرى 61 لعيد الاستقلال الوطني مناسبة ثمينة لاستحضار ظروف نشأة الدولة، والاعتزاز بالمكتسبات المترتبة على تحرير الوطن، والاستمتاع بمزايا نظام دولة مركزية تمارس سيادتها على كافة التراب الوطني وتسعى إلى تأمين الخدمات الضرورية لشعبها وتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة.
لقد حقق الرعيل الأول من القادة الوطنيين انجازات مهمة للدولة، وتحققت – لاحقا – إنجازات أخرى لا تقل أهمية في مستويات مختلفة،ولكن واجب الوقت اليوم هو استنفار جميع الطاقات وتوحيد الصف الوطني من أجل استكمال مشروع بناء الدولة الموريتانية وقيام حكامة رشيدة من أجل تقوية الدولة وترسيخ الديمقراطية وتحقيق الرفاه الاقتصادي والاجتماعي.
وفي نظري فإن عهدة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، التي تقترب من الانتصاف، تمثل فرصة يجب استغلالها بعناية لتقوية مناعة الدولة وازدهارها، وذلك لاعتبارات تتعلق بشخصيته وطموحه ومشروعه المجتمعي وحساسية اللحظة الوطنية، التي تفرض تكاتف الجهود لضمان العبور الآمن بالبلد إلى مصاف دولة عصرية ناجحة ديمقراطيا وتنمويا، وهو رهان يجب كسبه الآن؛ لأننا لم نعد نملك ترفا في الوقت والجهد بسبب التحديات المتشابكة ومضاعفاتها المستمرة.
ونظرة عامة وسريعة لتقييم ما مضى من مأمورية رئيس الجمهورية تعطي انطباعا إيجابيا حول المؤشرات العامة لما تحقق وما يمكن أن يتحقق في قابل الأيام، وهو ما من شأنه أن يؤسس بالفعل لنمط جديد من التعاطي مع الشأن العام وإدارة الدولة بعقلية مختلفة عن الأنماط السائدة خلال العقود الأخيرة.
ولكن قبل استعراض تلك المؤشرات ينبغي التذكير ببعض المقدمات التمهيدية الضرورية، أول تلك المقدمات هو استحضار الحكمة والقوة اللتان تمتع بهما الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، ونهوضه بواجباته كرجل دولة في استنقاذ البلد وإعادتها للسكة بهدوء وحزم لا يعرف التواني أو الخضوع للعواطف، كما عكس ذلك تعاطيه مع ملف الرئيس السابق، وهو التعاطي الذي مثل مدخلا مهما للإصلاح وتعزيز مناعة الدولة وحيوية مؤسساتها، مما ضمن انتقالا سلسا وآمنا من عهد الشخصنة والأوليغارشية إلى عهد الدولة والمؤسسات، وهو التعاطي الذي لا يوازيه في القوة والبراعة إلا الإدارة الكفؤة والحكيمة لإرث الخراب الاقتصادي، وهي الإدارة الحسنة التي ضمنت الحفاظ على سمعة الدولة ومصداقيتها وقدرتها على الوفاء بالتزاماتها الداخلية والخارجية، حتى استعادت الدولة توازنها المالي وثقة شركاؤها.
أما المقدمة الثانية، فهي التحدي المتعلق بجائحة كوفيد 19، وهو تحد آخر لا يقل خطورة عن جائحة العشرية السابقة، وقد تمكنت الحكومة – بتوجيه من رئيس الجمهورية – من انتهاج سياسات فعالة ساهمت في الحد من الآثار الاقتصادية والاجتماعية لجائحة كوفيد 19، ومن تحقيق مستوى من النمو يستجيب للتطلعات في ما يتعلق بمحاربة الفقر وبتحسين ظروف حياة السكان. وكان إنشاء صندوق للتضامن الاجتماعي ولمحاربة جائحة كورونا فكرة رائدة، ساهمت بفعالية في عملية التصدي لمضاعفات الجائحة.
أما المؤشرات الدالة على وجود إرادة وطنية صادقة لدى رئيس الجمهورية السيد: محمد ولد الشيخ الغزواني في التأسيس لنمط جديد من الحوكمة الرشيدة، فقد كشف عنها بوضوح الخطاب الرئاسي بمناسبة الذكرى ال61 لاستقلال البلاد، الذي كان ينضح بصدق العاطفة وشمولية التناول وعمق النظرة.
ويمكن أن نلخص تلك المؤشرات على النحو التالي:
1- مؤشر الشفافية والمكاشفة: وهو مؤشر إيجابي دشنه نظام الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، يتعلق بانتهاج الشفافية في التعاطي العام، وتفضيل المكاشفة مع الشعب في شرح التحديات وتقديم المعطيات وتقييم الإنجازات بشكل موضوعي، والاعتراف بالتقصير والإخفاق بعيدا عن منطق التدليس والتزييف.
2- استعادة ثقة الدولة لدى مجتمعها وشركائها، وإيقاف مسار التدهور والشخصنة وتآكل المصداقية وتعزيز قيم المؤسسية والالتزام بالدستور والقانون، والتعاطي مع الشركاء في الخارج وفق مبادئ القانون الدولي ومقتضيات التعاون الدولي.
3- تقوية المؤسسات: حيث تم العمل على تقوية المؤسسات الحكومية، لكي تكون مستجيبة وفاعلة، وتم منحها الصلاحيات والوسائل الكفيلة بنجاح مهامها، إلى درجة اعتبرها البعض زيادة في التدليل يمكن أن تستغل بشكل سلبي، بينما هو توجه واع وواعد، حيث لم يعد هناك مبرر لمسؤول حكومي بالاعتذار بنقص الوسائل أو مصادرة الصلاحيات، لقد تم منح الثقة لأبناء البلد وإخضاعهم للمسؤولية والمحاسبة.
4- تعزيز التماسك المجتمعي من خلال مقاربة تقوم على أن أهم مداخل تعزيز اللحمة الوطنية هي نهوض الدولة بواجباتها في محاربة التهميش والتفاوت والهشاشة، وتم التوجه بشكل حاسم نحو تنفيذ سياسات وبرامج خاصة للنهوض بالفئات الهشة والرفع من مستوياتها الاقتصادية والاجتماعية، وهو التوجه الذي ستكون له نتائج ايجابية عميقة على مستوى الاندماج المجتمعي وإعادة الدولة للمجتمع.
5- التوجه نحو استغلال الموارد العمومية في اتجاه منح الأولوية لترقية القطاعات الإنتاجية وخاصة: الزراعة وتنمية المواشي والصيد والبنى التحتية الداعمة للنمو، وهي قطاعات ظلت مهملة رغم ارتباط قطاعات واسعة من شعبنا بها، ورغم ما يمكن أن تتيحه من فرص عمل هائلة، ناهيك عن دورها في تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الغذاء.
6- إطلاق جملة مشاريع متنوعة في مجالات الطاقة والولوج للخدمات الأساسية وتطوير البنية التحتية الداعمة للنمو والصحة والتعليم والإسكان والمعادن، من شأنها التأسيس لنهضة اقتصادية، إذا تضافرت جهود الجميع في المتابعة والرقابة.
7- سياسة خارجية متوازنة ومنفتحة، ترفض الانجرار خلف لعبة المحاور، وفاعلة في محيطها الإقليمي وإيجابية في بيئتها الدولية، وتتمسك في نفس الوقت بقضية الأمة المركزية، حيث تم التمسك بحقوق الشعب الفلسطيني، ورفض ضغوط الإدارة الأمريكية بالتطبيع مع الكيان الصهيوني بشكل حاسم وحكيم.
8- تعزيز الديمقراطية، التي تمثل طوق نجاة حقيقي للدولة والمجتمع من المآزق الكثيرة الناتجة عن العجز في إدارة التنافس السياسي، كما نلحظ في عموم المجال العربي الإفريقي. لقد عمد رئيس الجمهورية، الذي وصل السلطة بشكل ديمقراطي سلمي قائم على الشرعية الانتخابية، إلى تفكيك بعض عقد الداء في تجربتنا الديمقراطية، والمتمثلة في الإقصاء والاستفراد والقطيعة بين مختلف الفاعلين الوطنيين، وإنهاء أجواء التأزيم والتوتر والاستقطاب التي أصبحت لازمة للمشهد السياسي الوطني، حيث دشن رئيس الجمهورية سياسة جديدة منسجمة مع طبيعة وقيم شعبنا ومعبرة في نفس الوقت عن تقاليد وأعراف الديمقراطية، وهو التوجه القائم على الانفتاح والتشاور والتعاون على تعزيز المشتركات، ولاحقا تم التوجه نحو خلق أرضية جديدة للتشاور الوطني الجامع الذي لا يستثني طرفا ولايقصي موضوعا، من أجل تحقيق إجماع وطني حول القضايا الجوهرية، وإدخال إصلاحات سياسية تعزز التراكم الديمقراطي، وهي بحق فرصة ينبغي ابتهالها من أجل الترسيخ الديمقراطي، وهل تقدمت ديمقراطية في العالم بدون الحوار والتشاور، والتنازلات المتبادلة، وتعزيز المشتركات، وتقوية جبهة القوى الإصلاحية؟ تجارب العالم تؤكد هذه الحقيقة، فالديمقراطية بناء تراكمي، ووجود قادة ديمقراطيين فرصة لا تتكرر كثيرا.