ثقافة وفنون

ناقد سعودي يكتب: مَنْفَى المُعْتَزِل.. حاشِيَةٌ عَلَى رِوايَةِ “الشَّنْقِيطِيِّ”

حسين بافقيه:

[[لَقَدْ تَعَوَّدَ أَهْلُ هذهِ الصَّحراءِ أن لَّا يَنْظُرُوا إلى غَدِهِمْ، ولا
يُفَكِّرُوا في قابِلِ أيَّامِهِمْ، وكَيْفَ لَهُمْ أن يُمْسِكُوا بِخُيُوطِ
مُسْتَقْبَلٍ لَّا يَتَحَكَّمُونَ في أَقَلِّ شُرُوطِهِ؟ وأَنَّى لَهُمْ أن يَسْتَبَقُوا
أَحْداثًا لَّيْسَ لَهُم مِّنَ التَّأثيرِ عَلَيْها إلَّا النَّزْرُ القليلُ الَّذي لا
يُغْنِي شيئًا؟]] الشَّنْقيطيُّ، ص 203

اسْتَهْوَتْني روايةُ الشَّنْقِيطِيِّ للسَّيِّدِ وِلْد أَبَاه كثيرًا، واسْتَوْقَفَتْنِي كثيرًا؛ اِسْتَهَوَانِي مِنْها، ساعَةَ ظَفَرْتُ بِها، أُمُورٌ مُجْتَمِعاتٌ؛ أنَّ مُؤَلِّفَها صديقٌ بَيْنِي وبَيْنَهُ مِن مَّوَاثيقِ الصَّداقةِ أَمْتَنُها وأَقْوَاها، وأَطْرَبَنِي عُنْوَانُها الْمُفْرَدُ العَلَمُ الشَّنْقِيطِيّ، وتَخَيَّلْتُ، وأنا أُمْسِكُ بِها، أوَّلَ عَهْدِي بِها، مُطَابَقَةَ الاسْمِ لِلْمُسَمَّى؛ فهي رِوايةٌ عنْ بِلادِ شنقيط، وقَدَّرْتُ أنَّني مُقْبِلٌ عَلَى عَمَلٍ يُطَابِقُ فيهِ العُنْوَانُ كُلَّ ما يَحْتَمِلُهُ اسْمُ ذلك الصُّقْعِ الْقَصِيِّ مِنْ دِيَارِ العَرَبِ والمُسْلِمِينَ. أَبْهَجَنِي أن يَكْتُبَ السَّيِّدُ وِلْد أَبَاهُ روايةً، وهو الفيلسوفُ الَّذي لانَتْ لَهُ الكتابةُ، منذُ اتَّخَذَها حِرْفةً لَّهُ، ولا شَكَّ أنَّني فَرِحتُ للسَّيِّدِ، ورَدَدْتُّ اصطناعَهُ هذا النَّوْعَ مِنَ الأدبِ سبيلًا لَّهُ إلى تلك “الشّنقيطيَّةِ” الثَّاوِيَةَ في رُوحِهِ؛ فصاحِبي سَلِيلُ الثَّقافةِ العَرَبِيَّةِ الإسلاميَّةِ الَّتي تَضَلَّعَ مِنْها أسلافُهُ في موريتانيا وبِلادِ شنقيط، وعَلَى أنَّهُ عالِمٌ بالفلسفةِ الحديثةِ، يُحْسِنُ التَّهَدِّي إلى فلاسفتِها ومَذَاهِبِها = فيُنْبِئُكَ الْجُلُوسُ إليهِ أنَّ أَثَرَ ثقافةَ أسلافِهِ لا يزالُ لها عَلَيْهُ أَثَرٌ بّيِّنٌ، فإحسانُ اللِّسانِ العَرَبِيِّ، والتَّمَذْهُبُ بمذهبِ عالِمِ المدينةِ النَّبَوِيَّةِ المُنَوَّرَةِ، وصحراويَّتُهُ = هِيَ جِمَاعُ شَخْصِيَّتِهِ، بَعْدَ أن يُطَوِّفَ بِكَ في فلسفةِ ميشيل فوكو ومَنْ إليهِ مِنْ فلاسفةِ الْحداثةِ وما بَعْدَها، فإذا عَرَفْتَ السَّيِّدَ معرفتي بِهِ لمْ تَعْجَبْ أن يُصَنِّفَ رِوايةً، حتَّى إذا دَفَعَ بِها إلى المطبعةِ، وتَلَقَّفَتْها المكتباتُ في مَغْرِبِ الأُمَّةِ ومَشْرِقِها، وقَرَأْتَ عُنْوَانَها ذلك الَّذي أَعْجَبَنِي وأَطْرَبَنِي = أَدْرَكْتَ إلى أنَّ أستاذَ الفلسفةِ الَّذي استراحَ، بِأَخَرَةٍ، إلى الرِّوايةِ، قَدِ وَجَدَ الطَّرِيقَ الَّذي اطْمَأَنَّ إليهِ.

وسأَصْدُقُكَ القَوْلَ: لَوْ أنَّ صاحِبِي السَّيِّدَ تَخَيَّرَ موضوعًا غَيْرَ ما اختارَ، واسْمًا غَيْرَ اسْمِها، ولَوْ أنَّ خَيَالَهُ الفَنَّانَ هَدَاهُ إلى لَوْنٍ جديدٍ مِمَّا يَضْطَرِبُ لَهُ عَقْلُ فيلسوفٍ اسْتَهْوَتْهُ الرِّوايةُ = لابْتَعْتُها لأنَّهُ صاحِبي، ولَأَقْبَلْتُ عَلَيْها مُتَثَاقِلًا، وما كانَ لِي أنْ أَحْمِلَهُ عَلَى ما أُرِيدُ، ولَكِنَّ موضوعَهُ الَّذي أَدَارَ فيهِ قَلَمَهُ، والعُنْوَانَ الَّذي ارتضاهُ = لاءَما ذَوْقِي وعَقْلِي، ولَعَلِّي لَوْ كُنْتُ عَلَى غَيْرِ ما أنا عَلَيْهِ لأنشأْتُ كلامًا يُخالِفُ عنْ كلامي هذا الَّذي تقرأُهُ.

وسأَقُولُ لَكَ شيئًا: إنَّهُ غَبَرَ عَلَيَّ زَمَنْ طَوِيلٌ أُوْلِعْتُ فيهِ بِلَوْنٍ مِّنَ المعرفةِ لا يكادُ يُعْنَى بِهِ أَهْلُ الأدبِ والنَّقْدِ في ثقافةِ العَرَبِ المُحْدَثِينَ = إلَّا قليلًا، استهوانِي فيهِ كُتُبُ التَّراجِمِ العامَّةِ في تُراثِنا، ثُمَّ قُدِّرَ لي، في حديثٍ ذِي شُعَبٍ، أنْ تَمْتَنَ صِلَتي بفهارِسِ الشُّيُوخِ وبرامِجِهِمْ وأثباتِهِمْ، وما كُنْتُ لِأَقَدِّرَ أنَّ هذا الضَّرْبَ مِنْ ثقافتِنا الَّذي بَدَأَ خفيفًا لطيفًا سيتسلَّطُ عَلَيَّ، فإذا بي أنقطِعُ إليهِ، وأَجِدُ في أثنائِهِ دُنْيَا أُخْرَى في ثقافتِنا غَيْرَ تلك الظَّاهِرَةِ الَّتي نُبْدِئُ فيها القولَ كثيرًا ونُعِيدُهُ، وخُيِّلَ إِلَيَّ، وأنا أَتَعَرَّفُ رُمُوزَ تلك الكُتُبِ وأَفُكُّ مُعْجَمَها، أنَّ هذا الضَّرْبَ الطَّريفَ مِنَ الكُتُبِ إنَّما يُنْبِئُ عنْ وَحْدَةٍ في العِلْمِ والثَّقافةِ والمعرفةِ بَيْنَ أوصالِ هذا العالَمِ الإسلاميِّ الفَسِيحِ، وأنَّ أَثَرَهُ لَيَظْهَرُ واضِحًا مُبِينًا في كُتُبِ الفهارسِ والمَشْيَخاتِ والبرامجِ والأثباتِ، وإنَّنا لَنَقِفُ عَلَيْهِ في غَيْرِ كِتابٍ، حتَّى لَوْ قالَ قائلٌ: إنَّهُ استحالَ غايَةً لِّضُرُوبٍ مُّختلِفاتٍ مِّنَ التَّصنيفِ لَمَا كانَ في هذا القَوْلِ غرابةٌ ولا مُبَالَغَةٌ. ألا يَكْفِي أن يُشَارَ، هُنا، إلى كُتُبِ الرِّحلةِ إلى البيتِ العتيقِ؟ إنَّ عُنْواناتِ ألوانٍ مِّنْها تُوْمِئُ إلى الرِّحلةِ، لكنَّكَ، متَى ضَرَبْتَ فيها، تلقاها كُتُبَ رِحْلَةٍ، وبرامِجَ شُيُوخٍ، ومُعْجَمَ كُتُبٍ، وفِهْرِسَ أسانيدَ وإجازاتٍ، وليس عَلْيْنا أن نَّسْتَنْكِرَ ما نَظْهَرُ عَلَيْهِ، ولا أن نُّخْرِجَ هذا الضَّرْبَ مِنَ التَّأْلِيفِ عَمَّا أُرِيدَ لَهُ، وهلْ كانَتِ الرِّحْلَةُ إلى الْحَجِّ، في وَجْهٍ مِّنْ وُجُوهِها، إلَّا رِحْلَةَ أشياخٍ، وكُتُبٍ، وإجازاتٍ، وأسانيدَ، وتَلْمَذَةٍ، وتَلَقٍّ؟! هي بعضُ ذلكَ، وهي، كذلك، لَوْنٌ جامِعٌ مِّنْ أنواعِ الأدبِ، وإنَّهُ لن يَلِينَ لَنا، وإنَّنا لَن نُّحِبَّهُ ما لَمْ نُقْبِلْ عَلِيْهِ، ونَفُكَّ رُمُوزَهُ، وعَسَانا، لَوْ فَعَلْنا ذلك، نَقِفُ في الكُتُبِ الَّتي خَلَصَتْ لَها، بِتَمَامِها، عَلَى نَوْعٍ في الأدبِ والكِتابةِ جديدٍ، أوْ عسانا نَعْجَبُ لهذا الضَّرْبِ الَّذي يَجْمَعُ، في إهابٍ واحدٍ، أنواعًا مختلِفاتٍ مِّنَ الكِتابةِ، وأصنافًا مختلِفِينَ مِنَ المُؤَلِّفِينَ، يقترِبُ نَفَرٌّ مِّنْهُمْ مِنْ صَنْعَةِ الأدبِ، ويبتعِدُ آخَرُونَ، تَدْنُو فكأنَّها ترجمةٌ شخصيَّةٌ أوْ مُذَكِّراتٌ أوْ رِحْلَةٌ، وتَبْعَدُ فتُوْشِكُ أنْ تَخْلُصَ، بِتَمَامِها، للأشياخِ، والكُتُبِ، والأسانيدِ، والإجازاتِ.

ولَسْتُ أَسْتَبْعِدُ أنَّ السَّيِّدَ وِلْد أَبَاه أرادَ لِرِوايةِ الشَّنْقِيطِيِّ أن يَمَسَّها شَيْءٌ مِّنْ ذلك، وإنَّنا نَشْرَعُ فيها، ونحنُ لا نَعْرِفُ مَنِ الشَّنْقِيطِيُّ الَّذي اخْتَصَّهُ بِعَمَلٍ أدبيٍّ كامِلٍ، لَكِنَّنا ما إن نُّقْبِلَ عَلَى قِرَاءَتِها حتَّى نَظُنَّ ظَنًّا يُشْبِهُ اليَقِينَ أنَّهُ ما اختارَ هذا الاسْمَ، ولَهُ في واعِيَةِ المَغَارِبَةِ والمَشَارِقَةِ أَثَرٌ أَيُّ أَثَرٍ، إلَّا لِيَبْعَثَ تاريخًا، ويُحْيِيَ ثقافةً، ويُنْهِضَ تُرَاثًا، عَلَى أنَّنا لا نكادُ نَمْضِي، إلَّا قليلًا، حتَّى نَعْرِفَ أنَّهُ أرادَ شنقيطِيًّا دُونَ سوَاهُ مِنَ الشَّناقِطَةِ، وأنَّ الشَّنْقِيطِيَّ الَّذي عَنَتْهُ الرِّوايةُ ليس إلَّا مُحَمَّد بن عبد الله العَلَوِيّ الشَّنْقِيطِيَّ (ت ١١٤٤هـ)، الَّمعرُوفَ في كُتُبِ التَّراجِمِ والسِّيَرِ بِـ “ابْنِ رازِگه” – بالكافِ المعقودةِ – ورازِگه هذهِ هِيَ أُمُّهُ، ولولا إشارةٌ هي أَشْبَهُ بالبَرْقِ لاحتاجَ القارِئُ المُطَّلِعُ – بَلِ العالِمُ! – إلى الشَّاهِدِ والدَّليلِ لِيُعَيِّنَ ويُسَمِّيَ!

إِذَنْ، نحنُ إزاءَ رِوايةٍ يَسْهُلُ حَدُّها بِـ “الرِّوايةِ التَّاريخيَّةِ”، ولنا أن نَّدْعُوَها “رِوايةَ السِّيرةِ”، لِتَعَلُّقِها بإنسانٍ مِّن لَّحْمٍ ودَمٍ كانَ لَهُ شأنُهُ في حياةِ بِلادِهِ شنقيط، وما صاقَبَها مِن نَّوَاحٍ أَهَمُّهُنَّ السُّوسُ ومكناسةُ، والسُّودانُ الغَرْبِيُّ، وهِيَ تسمياتٌ غريبةٌ، شيئًا مَّا، عَلَى الأدبِ العَرَبِيِّ الحديثِ، لَكِنَّها قريبةٌ حبيبةٌ إلى مَنِ اتَّصَلَتْ أسبابُهُ بِكُتُبِ التَّراجِمِ، ولا سِيَّما تلك الَّتي لَهَا تَعَلُّقٌ بتراجِمِ المالِكِيَّةِ.

وكُنْتُ، كُلَّما مَضَيْتُ في الرِّوايةِ، لا أكادُ أُحِسُّ غَرَابَةً، فموضوعُ الكِتابِ، في الإجمالِ، أَعْرِفُهُ معرفةً طَيِّبَةً، فابْنُ رازِگه مِنْ أبناءِ المِئَةِ الهِجْرِيَّةِ الحادِيَةَ عَشْرَةَ والثَّانِيَةَ عَشْرَةَ، اشتغلَ بالعِلْمِ والأدبِ والقضاءِ، لا يكادُ يَبْتَعِدُ عنْ أقرانٍ لَّهُ في بلادِ شنقيط والمغربِ الأوسطِ والمغربِ الأقصَى، إلَّا شيئًا قليلًا، بَلْ عسانا، لَوْ أَغْضَيْنا عن مَبْنَى الأسماءِ ومَعْناها، نَلْقَى أَمْثِلَةً لَّهُ في مِصْرَ، والْحِجَازِ، والعِرَاقِ، والشَّامِ، أوْ ما شِئْنا مِنْ دِيَارِ العَرَبِ والمُسْلِمِينَ، يَحْمِلُنا عَلى القَوْلِ بذلكَ وَحْدةُ الثَّقافةِ والمَنْهَجِ والمُتَّجَهِ؛ فالكِتابُ يُؤَلِّفُهُ القاضي عِيَاضٌ في المغربِ الأقصَى فيَذِيعُ في المغرِبِ، والأندلُسِ، والسُّودانِ الغربيِّ، ويُشْرَحُ ويُحَشَّى في مِصْرَ، والحِجَاز وما إليهما، ويَكْفِينا دِلالةً عَلى ما نَقُولُ كُتُبُ التَّراجِمِ، ولَوْ شِئْنا تخصيصًا لَسُقْنا مُخْتَصَرَ خليلٍ في الفِقْهِ المالِكِيِّ، صاحِبُهُ مِصْرِيٌّ، وشُرَّاحُهُ مِنْ كُلِّ ناحِيَةٍ كانَ لِمذْهَبِ إمامِ دارِ الهِجْرَةِ تَأَثُّلٌ وقُوَّةٌ، أمَّا هُيَامُ الشَّناقِطَةِ بهذا المُخْتَصَرِ، دُونَ سِوَاهُ مِنْ كُتُبِ المَذْهَبِ، فقِصَّةٌ تَجُوزُ الفِقْهَ والمُتُونَ والحواشي لِتَبْلُغُ مَرْتَبَةَ العِشْقِ والهَوَى!

لَكِنَّ السَّيِّدَ وِلْد أَبَاهُ أرادَ ابْنَ رازِگه دُونَ غَيْرِهِ مِنْ عُلَماءِ بِلادِ شنقيط، بَطَلًا يُدِيرُ عَلَى لِسَانِهِ حَوَادِثَ رِوايةٍ برأسِها، فإذا هُوَ الشَّنقيطيُّ وإذا هذا هُوَ.

لَمْ يُفْصِحِ السَّيِّدُ وِلْد أَبَاه عنْ عِلَّةِ ذلك، لَكِنَّني أُقَدِّرُ سببَ الاختيارِ.

ولا شَكَّ أنَّ ابْنَ رازِگه مُعْدُودٌ في الْجِلَّةِ مِنْ عُلَماءِ بِلادِ شنقيط وما صاقَبَها مِن نَّوَاحِي المغربِ الأقصَى والسَّودانِ الغربيِّ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنِ الوَحِيدَ؛ فشَيْخُهُ بلعمش، والبرتليّ، والولاتيّ، والدّميانيّ، ومصطف الطَّالِب… وما مِنْهُمْ إلَّا وهُوَ عالِمٌ ذُو شأنٍ، لَكِنَّ ابْنَ رازِگه يمتازُ مِنْ كُلِّ أولئكَ بأنَّهُ معدُودٌ في فُحُولِ الشُّعراءِ، كما هُوَ مَعْدُودٌ في جِلَّةِ العُلَماءِ، ودَعْنِي أَقُلْ شيئًا: إنَّ بِلادَ شنقيط كأنَّما عاكَسَها الزَّمانُ وقَتَّرَ عَلَيْها، وبَيْنَما فُسِحَ لجاراتِها في المغربِ الأدنَى، والمغربِ الأوسطِ، والمغربِ الأقصَى أن يَسْخُوَ عَلَيْهِنَّ التَّاريخُ، فنَعْرِفَ أَطْرَافًا واسِعَةً مِنْ أنبائهِنَّ ومِقْدارَ ما لأبنائِهِنَّ مِنْ سُهْمَةٍ في العِلْمِ والأدبِ وما إليهما = أَلْقَى عَلَى شنقيط وما دارَ في فَلَكِها بِسُدُولٍ مِّنَ الغَيْبِ، حتَّى لَكأنَّنا نَضْرِبُ في غياهِبَ مِنَ الظُّلْمةِ، ولا نكادُ نُمْسِكُ بأَثَارَةٍ مِّنْ هُدًى، حتَّى إذا أَسْمَحَ التَّاريخُ بالَغَ في إسماحِهِ فإذا نَحْنُ إزاءَ شاعِرٍ كأنَّما أُتِيحَ لَهُ أن يَعُبَّ مِن نَّبْعَةِ الشِّعْرِ، فيرتوِيَ مِنْها كما شاءَ، وإذا بِنَا نَقْرَأُ شِعْرًا لا نُخْطِئُ فيهِ أَثَرَ القُوَّةِ والمَتَانَةِ والغَرَابَةِ، ويُخَيَّلُ إلينا، ونحنُ نتلَذَّذُ بِشِعْرِهِ الأعرابِيِّ الدِّيباجةِ أنَّنا إنَّما نَقْرَأُ شِعْرًا لأبي الطَّيِّبِ أوْ حَبِيبِ بْنِ أَوْس! وكأنَّ الزَّمانَ الَّذي بَخِلَ عَلَى شنقيط عَوَّضَها بابْنِ رازِگه خَيْرَ تعويضٍ، ولَوْ جازَ أن نَّقِيسَ القديمَ بالْجديدِ لَجَازَ أن نُّشَبِّهَ ابْنَ رازِگه في بِلاد شنقيط، في القرنينِ الحادِي عَشَرَ والثَّانِي عَشَرَ للهِجْرَةِ، بمحمود سامي الباروديّ في مِصْرَ، في القَرْنَ الثَّالِثَ عَشَرَ وأَوَّلِ الرَّابِعَ عَشَرَ، وكِلا الشَّاعِرَيْنِ أَعَادَ إلى الشِّعْرِ القُوَّةَ، وكِلاهُما بَثَّ في أوصالِهِ ماءَ الْحياةِ!

لَمْ أَتَحَرَّرْ، وأنا أَقْرَأُ الشَّنْقِيطِيَّ، مِنْ سُلْطانِ التَّاريخِ، أوْ لِأَقُلْ: مِنْ سُلْطانِ القَدْرِ الَّذي أَعْرِفُهُ مِنْ تاريخِ العِلْمِ والأدبِ في تلك النَّاحِيَةِ مِنْ دِيَارِ العَرَبِ والمُسْلِمِينَ، تُسْلِمُنِي الرِّوايةُ إلى التَّاريخِ، وإذا اسْتَغْلَقَ عَلَيَّ شَيْءٌ فيها فَزِعْتُ إلى التَّاريخِ لِيَجْلُوَ لِي ما تَعَاصَى عَلَيَّ، ولا رَيْبَ في أنَّ رِوايةَ السَّيِّدِ وِلْد أَبَاهُ أَعَادَتْني إلى طَرَفٍ مِّمَّا ظَهَرْتُ عَلَيْهِ مِن نَّبَأِ أَهْلِ القَلَمِ في بِلادِ شنقيط وبِلادِ التَّكرُورِ والسُّودانِ الغَرْبِيِّ، وسأرْجِعُ، تارَةً أُخْرَى، إلى ما استهلَلْتُ بِهِ هذا الفَصْلَ؛ إلى كُتُبِ التَّرَاجِمِ والفَهَارِسِ والبرامِجِ والمَشْيَخَاتِ والأَثْباتِ، وكانَ مِمَّا اتَّصَلْتُ بِهِ كِتابُ فَتْحِ الشَّكُورِ في مَعْرِفَةِ عُلَماءِ تَكْرُور للبرتليِّ الوَلاتِيِّ، واستجْلَبَ نَظَرِي أنَّ في هذه النَّاحِيَةِ الَّتي تُدْعَى بِلادَ شنقيط، وفيما اتَّصَلَ بِهَا مِنْ أصقاعٍ لَنَبَأً عجيبًا، وأنَّهُ لا تَزَالُ عُلُومُنا، في تلك العُصُرِ المُتَأَخِّرَةِ، وفي تلك الأصقاعِ القَصِيَّةِ = تَضْطَرِبُ وتَنْمُو، ولا نزالُ نَظْهَرُ عَلَى جمهرةٍ مِّنَ المُتُونِ، والشُّرُوحِ، والحواشي، والتَّقاريرِ، والتَّعليقاتِ، يُؤَدِّي بِهِنَّ أَهْلُ القَلَمِ في تلك الصَّحراءِ حَقَّ العِلْمِ، ويَشْرَعُونَ في ثقافةٍ نَّهَضَتْ عَلَى أيديهِمْ، انتهَى إلينا مِقْدارٌ طَيِّبٌ مِّن نَّبَئِها فيما تَحَدَّرَ إلينا مِنْ تِلكَ الكُتُبِ.

وفي رِوايةِ الشَّنْقِيطِيِّ شيْءٌ مِّنْ ذلك كثيرٌ، يُنْسِينِي ما فيها أنَّني إنَّما أَقْرَأُ رِوايةً قِوَامُها الْخَيَالُ والصَّنْعَةُ، فأتأمَّلُ مِقْدارَ ما أَدَّاهُ السَّيِّدُ إلى هذا الفَنِّ، ثُمَّ إذا بِحَوَادِثِها تَحْمِلُنِي حَمْلًا عَلَى أنْ أَحْيَا في تلك العُصُورِ، أَسِيرُ خَلْفَ ابْنِ رازِگه حيثُ سارَ، في صحراءِ بلادِهِ، أَتَتَبَّعُ خُطَاهُ في الكُتَّابِ، والمسجدِ، والْحَلْقَةِ، والزَّاوِيَةِ، وأُرَاقِبُ نُمُوَّهُ طِفْلًا يتلقَّى آيَ الكِتابِ الكريمِ، وتِلْميذًا في حَلْقَةِ أبيهِ، ثُمْ شَيْخِهِ ابْنِ العمش، وأراهُ يَضْرِبُ في الصَّحراءِ في مَسِيرِهِ إلى جَدِّهِ الَّذي اتَّخَذَ مِن نَّاحِيَةٍ مِّنْها وَطَنًا جديدًا، يَرْعَى الماشِيَةَ، ويَفْصِلُ في أَقْضِيَةِ النَّاسِ، ويُعَلِّمُ التَّلامِذَةَ، ويُهَذِّبُ المُرِيدِينَ، وانْتَهَى إَلَيَّ شيءٌ مِنْ أسبابِ هِجْرَتِهِ، ولاحَ لِي، بَعْدَ حِينٍ، أنَّهُ ما ضَرَبَ في الأرضِ إلَّا لِيُصَوِّرَ إباءَهُ ما انتهَتْ إليهِ شنقيطُ وما إليها، وما بَلَغَهُ جَمَاعَةٌ مِّنَ الشَّنَاقِطَةِ مِنِ احْتِرَابٍ وطَلَبٍ للرِّئاسةِ والزَّعامةِ، وهُمْ قَوْمٌ انقطعُوا في صحرائِهِمْ لِلْعِلْمِ والعِبَادةِ.

وعَلَى أنَّ السَّيِّدَ وِلْد أَبَاه صَوَّرَ ذلك بِخَيَالِ الرِّوائيِّ لا بِقَلَمِ المُؤَرِّخِ فإنَّهُ يَشُقُّ عَلَى القارِئِ – والأَصَحُّ القَوْلُ: يَشُقُّ عَلَيَّ أنا! – أنْ أَدْفَعَ بِـ الشَّنْقِيطِيِّ عنْ أنْ تَتَوَسَّطَ بَيْنَ التَّارِيخِ والأدبِ، نَظَرَ الكاتِبُ فيما بَيْنَ يَدَيِهِ مِنْ تاريخِ بِلادِهِ، في أَوَّلِ بَعْثِها وانتهاضِها، وطَوَّفَ، وهُوَ المُؤَلِّفُ الأستاذُ، في مُصَنَّفاتِ التَّاريخِ، ودواوِينِ الأدبِ، واختارَ ابْنَ رازِگه مَنْ سِلْسِلَةٍ ذهبيَّةٍ مِّنْ أَهْلِ السَّيْفِ والقَلَمِ، وأَجْرَى عَلَى لِسانِ ذلك الشَّاعِرِ العالِمِ الَّذي ابْتُلِيَ بالسِّياسةِ ومَكَايِدِها، كما ابْتُلِيَ مِنْ قَبْلِهِ أبو زيدٍ عبدُ الرَّحمن بْنُ خَلْدُونَ الْحَضْرَمِيُّ (ت 808هـ)، وضَرَبَ في الأرضِ مِثْلَهُ، لَكِنَّهُ سَرْعَانَ ما آبَ إلى صحرائِهِ وعُزْلَتِهِ، فثَمَّ النَّجاةُ!

ولأنَّ السَّيِّدَ وِلْد أَبَاه تَخَيَّرَ صَنْعَةَ الرِّوايَةِ، مِنْ بَيْنِ صُنُوفِ الكِتابةِ، استعانَ بِلَوْنٍ طَرِيفٍ – أوْ عَسَاهُ كانَ في أَصْلِ نَشْأَتِهِ طَرِيفًا – فإذا مُتَكَأُ الرِّوايةِ وسَنَدُها “مَخْطُوطٌ” نادِرٌ عُثِرَ عَلَيْهِ في مدينةِ مَرَّاكُش في نَيْسان (أبريل) مِنْ سَنَةِ 1989م، ووَافَقَ العُثُورُ عَلَيْهِ حادِثَيْنِ أَوَّلُهُما سَعِيدٌ أُعْلِنَ فيهِ اتِّحادُ المغربِ العَرَبِيِّ، والآخِرُ هُوَ تلك الفِتْنَةُ المشؤومةُ الَّتي اندلعَتْ ما بَيْنَ السِّنِغالِ وموريتانيا! وإذا الرِّوايةُ، مِنْ أَلِفِها إلى يائِها، رِسالةٌ مُطَوَّلَةٌ يُجِيبُ بِها مَنْ سَنَعْرِفُ، بَعْدَ حِينٍ، أنَّهُ العالِمُ الشَّاعِرُ ابْنُ رازِگه، وإنْ لَمْ نَعْرِفْ إلى مَنِ اتَّجَهَ برِسالَتِهِ، ولَوْلا أنَّ “مخطوطَ الرِّسالةِ”، يستعينُ، بَيْنَ حِينٍ بَعِيدٍ وآخَرَ، بضميرِ المُخاطَبَ، لَجَازَ أن نَّعْتَدَّ الشَّنْقِيطِيَّ ترجمةَ حَيَاةٍ، أوْ رِحْلَةً، وعَسَاهَا، في غَيْرِ مَوْضِعٍ، تُوْشِكُ أنْ تَكُونَ كِتابًا مِنْ كُتُبِ السِّياسةِ الشَّرْعِيَّةِ، أوْ العقائِدِ.

وأنا لا أَنْفِي عنِ السَّيِّد وِلْد أَبَاه استعانَتَهُ بُكُلِّ ما تَحَدَّرَ إليهِ مِنْ تُراثِ أسلافِهِ، يَلْقَانا مِقْدارٌ مِّنْ ذلك كبيرٌ، إن لَّمْ نَسْتَبِنْهُ واضِحًا صرِيحًا، فحَسْبُنا أن نَّقِفَ عَلَى آثارِهِ أَنَّى أَخَذَتِ الرِّوايةُ بأيدينا، وهلْ باستطاعةِ الكاتِبِ أن يُؤَدِّيَ إلينا طَرَفًا مِّنْ حَوَادِثِ ذلك العَصْرِ، دُونَ أن يَكُونَ مُؤَرِّخًا، مَّرَّةً، وعالِمَ دِينٍ، مَّرَّةً ثانِيَةً، وبُلْدَانِيًّا، مَرَّةً ثالِثَةً، وفيلسوفًا مُفَكِّرًا، مَرَّةً رابِعَةً، عَلَى أن لَّا يُنْسِينا تَضَلُّعُهُ مِنْ كُلِّ ذلكَ، أنَّ الشَّنْقِيطِيَّ، هي في كُلِّ المَرَّاتِ، رِوايةٌ، وأنَّهُ لا سبيلَ إلى قِرَاءَتِها إلَّا بِمَا سِوَى هذا المِيثاقِ.

وكأنَّما كانَتْ شنقيط الَّتي سَكَتَ التَّاريخُ عنْ مِّقْدارٍ عظيمٍ مِّنْ تاريخِها = بَلَدًا حديثَ النَّشْأَةِ، متَى قِسْناها بجارَاتِها المغربيَّاتِ، وكأنَّما أرادَتِ الرِّوايةُ أنْ تُنَبِّهَ حَوَادِثُها عَلَى أن يَنْجُوَ هذا البَلَدُ الصَّحْرَاوِيُّ مِنَ الشَّرَكِ الَّذي ابْتُلِيَتْ بِهِ بُلْدَانٌ أُخْرَى وأقاليمُ، ولا سبيلَ إلى النَّجاةِ إلَّا بأن يشتغِلَ كُلُّ فَرِيقٍ بِمَا قُسِمَ لَهُ؛ أن لَّا يَرْمِيَ أَهْلُ القَلَمِ المُنْقِطِعُونَ في الزَّوَايا أبصارَهُمْ إلى كُرْسِيِّ المُلْكِ والرِّئاسَةِ والزَّعامةِ، وأنَّ سياسةَ البُلْدَانِ إنَّما هِيَ شأْنُ أَهْلِ القُوَّةِ والعَصَبِيَّةِ والشَّوْكةِ، ويَظْهَرُ لِي أنَّ هذا المَعْنَى يَنْزِلُ مِنَ الرِّوايَةِ مَنْزِلَ الأساسِ، تَذْهَبُ الشَّنْقِيطِيُّ بِنَا، يَمْنَةً ويَسْرَةً، ويَسْلُكُ بِنا ابْنُ رازِگه مَسَارِبَ شنقيط، وينتهي بِهِ مَسِيرُهُ إلى أن يُجَالِسَ المَوْلَى إسماعيل، سُلْطانَ المغربَ الأقْصَى، وتَمْتُنُ صِلَتُهُ بابْنِهِ وخليفتِهِ المَوْلَى محمَّدٍ، الأميرِ العالِمِ، ويَطَّوَفُ في الزَّوايا، والسَّوَاحِلِ، يَنْقَطِعُ، حِينًا مِّنَ الزَّمَنِ، إلى أَهْلِ الشَّوْكةِ والسُّلْطانِ، ويَطْمَئِنُّ بِهِ المقامُ في قَفْرٍ مِّنَ الأرضِ، في الزَّاوِيَةِ الدِّلائيَّةِ، ويَعُودُ تِلْميذًا يستكمِلُ عُدَّتَهُ، ويَلْبَثُ طالِبَ عِلْمٍ مَّا امْتَدَّ بِهِ العُمْرُ، يَجْلْسُ في مَجْلِسِ الأشياخِ مَجْلِسَ التِّلميذِ والمُرِيدِ، وفي دِيوانِ السُّلْطانِ والأميرِ والزَّعِيمِ، مَرَّةً مَجْلِسَ المُسْتَشَارِ، ومَرَّةً أُخْرَى في حاشِيَتِهِمْ، تَخْلبُهُ شارَاتُ السُّلْطانِ في السُّوسِ ومكناسةَ، وتُبْهِجُهُ القُصُورُ والرِّيَاشُ، ويستطِيبُ العَيْشَ فيها، حتَّى حِينٍ، حتَّى إذا اسْتَرْوَحَ رِيحَ شنقيط، مَهْما ضَرَبَ في الأرضِ، يَسْتَرِدُّ طُمَأْنِينَتَهُ، وكأنَّهُ يُدْرِكُ أنَّ عَلَى الشَّنقيطِيِّ، مَهْما تَشَوَّفَتْ نَفْسُهُ إلى مَبَاهِجِ الدُّنْيا، أن لَّا يُخَالِفَ عن مِّيثاقٍ غَيْرِ مكتُوبٍ؛ أن يَنْقَطِعَ في صحرائِهِ للعِلْمِ والعِبَادَةِ، وأنَّ لَهُ أن يَضْرِبَ في الأرضِ حاجًّا إلى البيتِ العتيقِ، وتِلْمِيذًا للأشياخِ، راحِلًا ومُنْتَجِعًا، وأنَّهُ ليس لَهُ، وإنْ حادَ عنْ هذا المِيثاقِ وأُنْسِيهِ، إلَّا أن يَتَّبِعَ خُطَّةَ الأسلافِ في مدينتِهِ “الَّتي لا تَعْرِفُ رِحْلاتِ الصَّعْلَكَةِ والمُغامَرَةِ، بَل لَّا تَعْرِفُ مِنَ الرِّحلاتِ إلَّا سَفْرَةَ التِّجَارَةِ القصيرةِ وسَفْرَةَ الْحَجِّ الواجِبَةِ عَلَى المُستطِيعِ”. (ص 130)

[[الْحَجُّ، بالنِّسْيَةِ لسُكَّانِ مَدينتِنا، وبَقِيَّةِ أَهْلِ هذهِ البِلادِ، لَيْسَ مُجَرَّدَ رُكْنٍ مِّنْ أركانِ الدِّينِ يُؤَدُّونَهُ، بَلْ هُوَ أُمُورٌ عِدَّةٌ في آنٍ واحِدٍ: إنَّهُ رِحْلةٌ عِلْمِيَّةٌ لاستكمالِ الطَّلَبِ وتوثيقِ الاطِّلاعِ والحُصُولِ عَلَى الإجازاتِ العِلْمِيَّةِ واقتِناءِ الكُتُبِ والمُصَنَّفاتِ.. الْحَجُّ يُعِيدُ صِيَاغةَ الإنسانِ في عَقْلِهِ ونَظَرِهِ، ويُوَسِّعُ تجارِبَهُ ويَسْمَحُ لهُ بمعرفةِ النَّاسِ والتَّعَرُّفِ عَلَى الشُّعُوبِ والقبائِلِ في أرضِ اللهِ الواسِعَةِ، فهو بهذا يُضَاعِفُ العُمْرَ ويُرَبِّي النَّفْسَ مِنَ الغُرُورِ والعُجْبِ.. هذا إنِ استطاعَ مُرِيدُ الْحَجِّ أن يَبْلُغَ مَقْصِدَهُ أوْ يَعُودَ سالِمًا مِّن رِّحلتِهِ]] (ص 43)

ورُبَّما انْتَهَى إليكَ شيْءٌ مِّنْ ذلك مِنَ الرِّوايةِ نَفْسِها، ورُبَّما تَأَدَّى إليكَ مِن مَّاضٍ لَّكَ في القِرَاءَةِ، ظَهَرْتَ فيهِ عَلَى طَرَفٍ مِّنْ تلكَ النَّوَاحِي، والْحَقُّ أنَّ رُمُوزَ الشَّنقيطِيِّ لَمْ تَسْتَقِدْ لِي لَوْلا أنْ أَلْمَمْتُ بِطَرَفٍ مِّنْ تاريخِ النَّوَاحِي، وتاريخِ أَهْلِ القَلَمِ خاصَّةً، وتَأَتَّى إِلَيَّ مِمَّا دَوَّنَهُ السَّالِفُونَ واسْتَقْرَأَهُ الخالِفُونَ مِنْ أبناءِ شنقيط، وأَدَّتْهُ إلينا الشَّنقيطيُّ = أنَّنا لا نستطيعُ أن نَّعْرِفَ تلكَ البِلَادَ وأَهْلِيها دُونَ أن نَّقِفَ عَلَى أَثَرِ الصَّحراءِ فيها وفيهم، والزَّاويةِ، والأوقافِ، اسْتَبَانَ لِي شيْءٌ مِّنْ ذلكَ في رِحْلةِ محمَّد بن محمود بن التَّلاميد التُّرْكُزِيُّ الشَّنقيطيّ، لَمَّا اطْمَأَنَّ بهِ المُقَامُ في المدينةِ النَّبويَّةِ المُنَوَّرةِ، وثانِيَةً في الوسيطِ في تَرَاجِمِ أُدباءِ شنقيط لأحمد بن الأمين الشَّنقيطيِّ، حتَّى إذا نَبَتَ جِيلٌ جديدٌ في موريتانيا، وتَضَلَّعَ أبناؤهُ مِنْ ثقافةِ الغربيِّينَ، بِمِثْلِ ما تَضَلَّعُوا مِنْ تُرَاثِ أسلافِهِمْ = إذا بِما كانَ أساسَهُ الحَدْسُ والظَّنُّ يُصْبِحُ في ضمائِرِ جمهرةٍ مِّن مُّثَقَّفِي بِلادِ شنقيط، بِلِسانِ الأقدمينَ، وموريتانيةَ، وهذا هُوَ اسْمُها الَّذي ارْتُضِيَ لها = عَقِيدةً لَّا تَقْبَلُ الْجِدَالَ، وَقَفِني عَلَى هذا المَعْنَى الدُّكتور أحمد وِلْد الحسن في أُطْرُوحَتِهِ الفَخْمةِ الشِّعْر الشَّنقيطِيّ في القَرْنِ الثَّالِثَ عَشَرَ الهِجْرِيِّ، واتَّفَقَ لِي أنْ ظَهَرْتُ عَلَيْهِ، غَيْرَ مَرَّةٍ، فيما أَلَّفَ الدُّكتور حَمَاه الله وِلْد السَّالِم وحاضَرَ وكَتَبَ، فلَمَّا وَضَعَ السَّيِّدُ وِلْد أَبَاه رِوايةً أَدْرَكْتُ أنَّ الصَّحراءَ، والزَّاوِيَةَ، والأوقافَ تَنْزِلُ مِنَ الشّنقيطِيِّ القديمِ، والموريتانيِّ الحديثِ، مَنْزِلَةَ الهُوِيَّةِ والكَيْنُونَةِ، وأنَّهُ بِغَيْرِ تلكَ الرُّمُوزِ سنَضْرِبُ في لَيْلٍ مِّنَ الافتراضِ والتَّكَهُّنِ.

وأَقْرَبُ الظَّنِّ أنَّني سأَتَحَيَّرُ في أَمْرِ الشَّنْقِيطِيِّ، لولا ذلكَ السَّطْرُ الَّذي مَرَّ سريعًا كالبَرْقِ، والَّذي سُمِّيَ فيه “الشَّنقيطيُّ” ابْنَ رازِگه، كما مَرَّ مِنْ قَبْلُ، لَكِنَّنا نُوْشِكُ أن نَّعُمَّ بِـ “الشَّنْقِيطِيِّ” كُلَّ مَنِ اعْتَزَى إلى تلكَ البِلادِ، أَدَارَ وِلْد أَبَاه عَلَى لِسَانِ ابْنِ رازِگه الخاصَّ والعامَّ، ما تَحَدَّرَ إلينا مِنَ التَّاريخِ مِنْ خَبَرِهِ، وما اتَّصَلَ بشنقيط والشَّناقِطَةِ، وكأنَّما لِسَانُهُ لِسَانُ حالِهِمْ؛ فالعَصْرُ، والبِيئَةُ، والثَّقافةُ صُهِرْنَ كُلُّهُنَّ في ابْنِ رازِگه، وأَظُنُّكَ تُوَافِقُنِي عَلَى أنَّهُ لَيْسَ ضَرْبَةَ لازِبٍ عَلَى الرِّوايةِ أنْ تَقِفَ حَيْثُ وَقَفَتْ كُتُبُ التَّاريخِ، ولَيْسَ مِنْ بأْسٍ عَلَى وِلْد أَبَاهُ أن يُدِيرَ عَلَى لِسَانِ الشَّاعِرِ العالِمِ القاضي السِّياسِيِّ ما لَمْ يَقُلْهُ؛ ذلكَ أنَّ الشَّنقيطيَّ تُنْزِلُ صاحِبَها عَلَى شَرْطِ صَنْعَةِ الرِّوايةِ، ولولا هذا الشَّرْطُ ما كانَتِ الرِّوايةُ رِوايةً.

قالَ أحمد بنُ الأمين الشَّنقيطيِّ سَنَةَ 1329هـ = 1911م:

[[وكانَ مَوْلِدُهُ في أَرْضِ القِبْلَةِ، ثُمَّ نَشَأَ بها إلى أنْ تَرَعْرَعَ، فطَمحَتْ نَفْسُهُ إلى العُلُومِ، فاشتغَلَ بها حتَّى تَضَلَّعَ. وكان ذلكَ عَلَى طريقِ خَرْقِ العادةِ، إذْ مُدَّةُ طَلَبِهِ لَيْسَتْ مُعْتادةً. ثُمَّ جَعَلَ يَرْجِعُ إلى بَلَدِهِ تارَةً، وإلى مَسْقطِ رأْسِهِ أُخْرَى. ثُمَّ طَمحَتْ نَفْسُهُ إلى الأعتابِ السُّلْطانِيَّةِ، وكانَ ذلكَ في إقبالِ الدَّولةِ العَلَوِيَّةِ، فاتَّصَلَ بأميرِ المؤمنينَ مَوْلايَ إسماعيل، رَحِمَهُ الله، فحَظِيَ عِنْدَهُ، وكانَ ذلكَ وَقْتَ نُبُوغِ المَوْلَى محمَّد بن مَوْلايَ إسماعيلَ المعروفِ بالعالِمِ، الَّذي اشْتَهَرَ عِلْمُهُ وفَضْلُهُ، فكانَ مِنْ خاصَّتِهِ، وكانَ يُكْرِمُهُ بما لمْ يَقْصُرْ عَمَّا يُذْكَرُ مِنْ إكرامِ الرَّشيدِ وأضرابِهِ لِمَنْ تَوَجَّهُوا إليهِ، فكانَ يَفِدُ إليهِ ثُمْ يَرْجِعُ إلى بِلادِهِ، فإذا تَذَكَّرَ تلكَ الشَّمائِلَ العالِمِيَّةَ، والأيادِيَ الحاتِمِيَّةَ، تتصاغَرُ عِنْدَهُ الصَّحراءُ وأَهْلُها، ثُمَّ يَرْجِعُ إلى الحَضْرَةِ السُّلْطانِيَّةِ]] (ص 1)

أَقْرَبُ الظَّنِّ أنَّ رِوايةَ الشَّنْقيطيِّ أَصْلُها هذهِ التَّرجمةُ، وهذهِ الفِقْرَةُ خاصَّةً، ولَعَلَّها تُنْبِئُ عنْ تَرَجُّحِ شاعِرٍ عالِمٍ بَيْنَ صحرائِهِ الَّتي كُلَّما فارَقَها ثُمَّ آبَ إليها أَلْفَاها، كما هِيَ، “الْجامِعَ العتيقَ، والمَقْبَرَةَ، وواحَةَ النَّخيلِ، وبُيُوتَ الْحَجَرِ المُتَرَاصَّةَ، وقِطْعانَ الإِبِلِ والماعِزِ القليلةَ، والسُّوقَ الصَّغيرةَ في أطرافِ المدينةِ مِنْ حَيْثُ تنطلِقُ القوافِلُ وإليها تَعُودُ… حتَّى الوُجُوهُ الَّتي تَرَكْتُها لمْ تَتَغَيَّرْ كثيرًا” (ص 159)، وبَيْنَما طَوَّفَ بالدُّنيا، في بلاطِ المَوْلَى إسماعيلَ في المغربِ الأقْصَى، وحِينَ ضَرَبَ في الأرضِ مُيَمِّمًا وَجْهَهُ شَطْرَ البَيْتِ العَتِيقِ، وحَيْثُ مَسَّهُ لِينُ الحضارةِ، ونَعِيمُ أَهْلِ المُلْكِ والسُّلْطانِ = لا يَلْبَثُ أن يَعُودَ إلى صحرائِهِ، فثَمَّ العالَمُ الَّذي يَعْرِفُ لُثْغَةَ الشَّنْقِيطيِّ: أن يَلُوذَ بصحرائِهِ وزاوِيَتِهِ وكِتابِهِ، وكأنَّهُ خُلِقَ لَهُنَّ لا للحَرْبِ – الَّتي ابُتُلِيَتْ بِها مدينتُهُ وإقليمُهُ – والسُّلْطانِ، أن يَكُونَ مِنْ أَهْلِ المُتُونِ لا مِنْ ذَوِي الشَّوْكةِ والأَيْدِ، وقدْ أَوْشَكَ ابْنُ رازِگه أن يكتَوِيَ بِنارِ السُّلْطانِ لولا أنْ تَدَارَكَهُ اللهُ!

ثَلَاثَةٌ لَيْسَ لَهَا أَمَانُ: الْبَحْرُ، والسُّلْطانُ، والزَّمَانُ!

إذنْ، لَّيْسَ للشَّنقيطيِّ أن يَخْرُجَ عَلَى ما استقرَّ في ضمائِرِ الأسلافِ: أن يَرْكَنَ إلى صحرائِهِ، وأن يَعْمُرَها بالعِلْمِ والتِّجارةِ، وإذا تَطَلَّعَ إلى التَّحَوُّلِ فحَسْبُهُ أن يَعْتَلِيَ ظُهُورَ الإِبِلِ ويَضْرِبَ في الأرضِ حتَّى يَبْلُغَ المسجدَ الحرامَ!
[هذا ما انتهى إليه ابن رازكه، وجدُّه، ومينحنا، وبلعمش… أهل الزاوية لا ينبغي لهم أن يهتموا بغير العلم، أما السياسة فلها أهلها… ابن ياسين، شنقيط وودان هِبَتَا الحَجِّ] عَلَى أنَّ ما رآهُ فريقٌ مِّنْ أَهْلِ القَلَمِ في شنقيط هُوَ خَيْرًا لَّها ولأهلِها، مِنَ الإخلادِ إلى الطُّمأنينةِ، والتَّفرُّغِ للعِلْمِ والعِبَادةِ = لا ينفي أنَّ النَّزعةَ إلى “الجِهَادِ” هِيَ، كذلكَ، غائرةٌ في ضمائِرِ أَهْلِ هذهِ النَّواحي، منذُ اسْتَقْدَمَ أسلافُهُمْ الفقيهَ المالِكيَّ عبدَ اللهِ بنَ ياسِينَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ، ويُنَشِّئَهُمْ، ويُرَبِّيَهُمْ، فاعتزَلَ بطائفةٍ مِّنْهُمْ في جزيرةٍ نائِيَةٍ، وأنشأَ جِيلًا مِّنَ النَّاسِ يَحْيَوْنَ “حَيَاةَ التَّصَوُّفِ والتَّقَشُّفِ والزُّهدِ والمُرَابَطَةِ” (حسن أحمد محمود، ص ١٨١).

طَوَّفَ ابنُ رازِگه ما طَوَّفَ ثُمَّ آوَى إلى شنقيطِهِ، وأَدْرَكَ، بَعْدَ طُولِ تأَمُّلٍ في حقائقِ الأشياءِ، أن لَّيْسَ لهُ سِوَى إصلاحِ نَفْسِهِ، وأن لَّا مَلْجَأَ لَهُ، بَعْدَ طُولِ الضَّرْبِ في الأرضِ، إلَّا العُزْلَةُ والانفرادُ عَنِ الآخَرِينَ. نَعَمْ، لَقَدْ أرادَ الإصلاحَ وحاوَلَهُ، وعساكَ لَوْ طَلَبْتَ عُنْوانًا لابْنِ رازِگه لَكانَ كُلَّ تِلْكَ الصَّحراءِ الَّتي أَحَبَّها، مَهْما كانَتْ مَخُوفَةً لَّا تحتفِظُ كُثْبانُها بأَثارَةٍ مِّنْ شيءٍ؛ لا إمارةٍ يَطْلُبُ أصحابُها التَّغَلُّبَ عَلَى مَن يَلِيهِمْ، ولا زاوِيَةٍ يَنْقَطِعُ إليها جَمَاعةٌ هاجرُوا بِدِينِهِمْ وأهليهِمْ، يُرِيدُونَ الأَمْنَ والانفرادَ عنِ النَّاسِ، فلا إمارةٌ بَقِيَتْ، ولا زاوِيَةٌ استمرَّتْ، ولَمْ يُدْرِكِ القَوْمُ ما أَدْرَكَهُ ابْنُ رازِگه، ولَمْ يَسْتَجِيبُوا لِنُصْحِهِ، وطالَما كانَ ناصِحًا مُّشْفِقًا: أنَّ زوَايَا الْعِلْمِ، تِلْكَ الَّتي انْتَبَدَتْ مَكَانًا قَصِيًّا في الصَّحراءِ، لَيْسَتْ بديلةً مِنْ إمارة السَّيْفِ والقُوَّةِ

[[إنَّ تَجْرِبَتِي في السَّفَرِ ومُخالَطَةِ أَهْلِ الشَّوْكةِ والسُّلْطَةِ أَوْصَلَتْنِي إلى أنَّ زوايَا العِلْمِ لا يُمْكِنُ أنْ تَكُونَ خِيَارًا بديلًا مِّنْ إمامةِ السَّيْفِ والقُوَّةِ، وإنْ هِيَ آثَرَتْ حَمْلَ السَّيْفِ وقَرَّرَتْ مُقَارَعَةَ المُتَرَبِّصِينَ والمُعْتَدِينَ بالسَّيْفِ دَخَلَتْ مَنْطِقَ الإمارةِ والحُكْمِ، وهُوَ ما حَصَلَ للزَّاوِيَةِ الدِّلائِيَّةِ، وغَيْرُ بَعِيدٍ عَنَّا ما حَصَلَ لناصِرِ الدِّينِ وجَمْعِهِ مِنَ الشَّمْشُويِّينَ والزَّوايَا]] (ص 162)

وكأنَّما غارَ في أَفْئِدَةِ أَهْلِ تِلْكَ النَّواحِي، مِنْ شنقيط وما حَفَّ بِها مِنْ بَلْدَاتٍ، ما طَلَبَهُ، قَبْلَ قُرُونٍ، الفقيهُ عبدُ اللهِ بْنُ ياسِين فأدْرَكَهُ النَّجَاحُ. إنَّ في الرِّوايةِ ما يُقَوِّي ذلكَ! أَلَمْ يَضْرِبِ الفقيهُ في صحرائِهِمْ، مِنْ قَبْلُ، فدعا أَسْلافَهُم مِّنَ البُدَاةِ، فاستقامَتْ لَهُ دَعْوَةٌ، وأَنْشَأَ دَوْلَةً؟ أَوَلَمْ يَكُنِ المُرَابِطُونَ آباءَهُمْ وأجدادَهُمْ؟ إذنْ، فلْيَكُن “رِّبَاطٌ”، ولْتَكُنْ “دَعْوَةٌ”، ولْتَقُمْ “إمارةٌ”، وما إن يَمْتَدُّ بِهِنَّ العُمْرُ حتَّى يُعْتَبَطْنَ في شَبَابِهِنَّ، وفي الشَّنْقِيطِيِّ إشاراتٌ إليْهِنَّ، يَمُرُّ بِهِنَّ القارِئُ مَرًّا سريعًا، وأَقْرَبُ الظَّنِّ أنْ سيَفُوتُهُ أنباؤُهُنَّ ما لَمْ يجتهِدْ في تَقَصِّي أُصُولِهِنَّ، فإنْ أُتِيحَ لَهُ شيْءٌ مِّنْ ذلكَ، عَلَى عُسْرِهِ، فسَيَذُوقُ أفاوِيقَ الشَّنْقِيطِيِّ ويَحُلُّ غَوَامِضَها، وما استقامَ لي فَهْمٌ لِّحَوَادِثِها إلَّا بَعْدَ ألوانٍ مِّنَ المُكَابَدَةِ! فالسَّيِّدُ وِلْد أباه يُرِيدُ مِنْ قُرَّاءِ رِوايَتِهِ أن يَبْلُغُوا مِنَ العِلْمِ بِحَوَادِثِ التَّاريخِ مِثْلَ ما بَلَغَهُ، وأَنَّى لِي أنْ أُزَاحِمَهُ، وهُوَ العالِمُ بِمَضَايِقِ ذلك التَّاريخِ وما حَفَّ بِهِ مِنْ أخبارٍ! لكنَّني اجْتَهَدْتُّ ولِكُلِّ مُجْتَهِدٍ نَّصِيبٌ! فإذا القليلُ الَّذي أَصَبْتُهُ مِنْ تاريخِ بِلادِ شنقيط، وما اتَّصَلَ بِها مِنْ بِلادِ التَّكْرُورِ، والسُّودانِ الغربيِّ = حَلَّ غامِضًا، وأَوْضَحَ مُبْهَمًا، وإذا أسماءُ النَّاسِ، والأمكنةِ، والقبائِلِ، والْجَمَاعاتِ، والإمارَاتِ، والزَّوَايَا = قريبةٌ، شيئًا مَّا، وحَسْبُها أنْ وَقَفَتْنِي عَلَى جَمَالٍ مُّسْتَكِنٍّ في أثناءِ هذا العَمَلِ الأدبيِّ الَّذي لا يُدَاخِلُنِي شَكٌّ في أنَّهُ نَهَكَ كاتِبَهُ، فساغَ أن يَبْذُلَ قارئُهُ مِنَ الْجُهْدِ ما يُبَلِّغُهُ بعضَ أسرارِهِ!

ثَوَى الفقيهُ المُرَابِطِيُّ عبدُ اللهِ بنُ ياسِين في ضَمِيرِ كُلِّ شنقيطيٍّ، بَثَّ في ضمائِرِهِمْ حُلُمَ “الإمارَةِ”، بَلِ “الدَّوْلَةِ”، ثُمَّ مَضَى إلى شأْنِهِ، وكأنَّهُمْ لَمْ يَسْتَجْمِعُوا شُرُوطَ الدَّوْلةِ، وإذا ما قُيِّضَ لَجَمَاعاتٍ مِّنْهُمْ أن يَشِيدُوا “إمارةً”، فحَسْبُها أنْ تَنْزِلَ عَلَى شَرْطِ صحرائِهِمْ وبادِيَتِهِمْ، وإنَّهُمْ لا يَزَالُونَ يَضْرِبُونَ في الأرضِ لا يكادُونَ يُنِيخُونَ في ناحِيَةٍ حتَّى يَرْتَحِلُوا إلى أُخْرَى، الاسْمُ الْجامِعُ لَهُمْ عِبَارَةٌ قالَها فقيهٌ مِّنْ أَنْبَهِ فُقَهائِهِمْ، أَحَسَّ مُشْكِلَةَ البادِيَةِ، وأَنْشَأَ يَلْتَمِسُ مَخْرَجًا لَّها، هو الشَّيْخُ محمَّد الماميُّ. يَقُولُ: “ونَحْنُ أَهْلُ بادِيَةٍ، في فَتْرَةٍ مِّنَ الأحكامِ، بَيْنَ العمَالَتَيْنِ الإسماعيليَّةِ والبوصيابِيَّةِ” (وِلْد الحَسَن، ص 15)، وشنقيط، عِنْدَهُ، هِيَ “بِلادُ الفَتْرَةِ”، وهِيَ، عِنْدَهُ وعِنْدَ عَدَدٍ مِّنْ أبناءِ صحرائِهِ، “البِلادُ السَّائِبَةُ” الَّتي لَيْسَ لِأَحَدٍ سُلْطانٌ عَلَيْها (وِلْد الحَسَن، ص 16-17)، أوْ كأنَّها، بِمُصْطَلَحِ الأسبقِينَ، “لَقَاحٌ لَّا تَدِينُ لِأَحَدٍ”!

ويَظْهَرُ أنَّهُ لَيْسَ لِشنقيط مِنْ بَدِيلٍ عَنْ سُنَّةِ الفقيهِ عبدِ اللهِ بنِ ياسين: الإمارةِ والزَّاوِيَةِ، وإنَّهُمْ لَيَعْرِفُونَ فيهِ “المُعَلِّمَ”، بَلْ إنَّهُمْ لَيَعُدُّونَهُ “أَوَّلَ مُعَلِّمٍ عَرَفَتْهُ موريتانيا” (وِلْد الحَسَن، ص 48)، لَكِنَّهُ لَمَّا حَوَّلَ “الدَّعْوَةَ” إلى “دَوْلَةٍ” = آثَرَ الاحتفاظَ بمقعدِ “المُعَلِّمِ”، وفَوَّضَ إلى غَيْرِهِ وَظِيفَةَ “الأميرِ”، وضَرَبَ بِطُلَّابِهِ الْمَفَازَاتِ، وغابَ، يَوْمَ غابَ، تاريخُ شنقيط وما اتَّصَلَ بِها، ولَوْلا نُتَفٌ تَحَدَّرَتْ إلينا في كُتُبِ التَّاريخِ والتَّراجِمِ والسِّيَرِ والرِّحلاتِ = لَتَعَلَّقْنا بِسَرَابٍ!

ويَرُدُّ مُؤَرِّخُو شنقيط إلى أسلافِهِمُ المُرَابِطِينَ أَقْسامَ مُجْتَمَعِهِمْ، في حَدِيثٍ ذِي شُعَبٍ، إلى: حَسَّان؛ وهُمْ أَهْلُ السَّيْفِ، والزَّوَايَا؛ وهُمْ أَهْلُ القَلَمِ، واللُّحْمةِ؛ وهُمُ المُشْتَغِلُونَ بإصلاحِ الأموالِ، يَدْفَعُونَ للمُتَعَلِّمِينَ، مِنَ الزَّوَايَا، الزَّكاةَ، ويُعْطُونَ لِحَسَّان، أَيِ المُجَاهِدِينَ أوِ المُحَارِبِينَ، الإعانةَ (الوسيط، ص 475) وإلى “الزَّوَايَا” – أَيْ أَهْلُ القَلَمِ – يَعُودُ إلى الشَّنَاقِطَةِ ما اكتسبُوهُ مِنْ صِفَاتٍ خارِقَةٍ في العِلْمِ والاستظهارِ والحِفْظِ، فإذا لَقِيتَ شنقيطِيًّا عامِّيًّا فاعْلَمْ أنَّهُ الاستثناءُ الَّذي تَقْوَى بِهِ القاعِدَةُ!

يَقُولُ صاحِبُ الوَسِيطِ:
[[أَمَّا الزَّوَايَا، فلا يُوْجَدُ مِنْ بَيْنِهِمْ ذَكَرٌ أوْ أُنْثَى إلَّا يَقْرَأُ ويَكْتُبُ، وإنْ وُجِدَ في قبيلةٍ غَيْرُ ذلكَ فإنَّهُ نادِرٌ، بِحَيْثُ لا يُوْجَدُ في المِئَةِ أَكْثَرُ مِنْ واحِدٍ، عَلَى تقديرِ وُجُودِهِ]] (ص 517)

ولا يُخْطِئُنا، أَنَّى مَضَيْنا في الشَّنقيطيِّ، الظَّفَرُ بِذلكَ المِيراثِ الَّذي وَسَمَ شنقيط وأَهْلَها بِمَيْسَمِهِ: الصَّحراءُ، وأَهْلُ السَّيْفِ، وأَهْلُ القَلَمِ، وكأنَّهُ لا تاريخَ لِتِلْكَ النَّاحِيَةِ إلَّا ما تَرَجَّحَ بَيْنَهُنَّ، غَيْرَ أنَّنا لَن يَغِيمَ عَنَّا أَصْلٌ في الرِّوَايَةِ – كأنَّما هُوَ أَصْلٌ في جِبِلَّةِ الشَّنْقِيطِيِّ – يُؤْثِرُ فيهِ الانعزَالَ والانفرادَ؛ أَلَمْ تَكُنْ دَعْوَةُ الفقيهِ عبدِ اللهِ بنِ ياسِين والرِّبَاطُ الَّذي أَنْشَأَهُ تحقيقًا لَّهُما؟ يُوْلَدُ صاحِبُنا ابْنُ رازِگه في بَلْدَتِهِ، فلَمَّا سَأَلَ عَنْ جَدِّهِ القاضي محم عَرَفَ أنَّهُ انْتَبَذَ، بِثُلَّةٍ مِّنْ طُلَّابِهِ، ناحِيَةً في الصَّحراءِ، أَبَى الْحَرْبَ واتَّقَاها، ولاذَ بِعُزْلَتِهِ، ومِنْ قَبْلِهِ أَلَمْ تَكُنْ إمارةُ الإمامِ ناصِرِ الدِّينِ زاوِيَةً، فَلَمَّا أَتَمَّ الدَّعْوَةَ والتَّربِيَةَ، دَفَعَ بِأتْباعِهِ مِنَ “التَّائبِينَ” إلى الْجِهَادِ، حتَّى كأنَّ عِبَارةَ ابْنِ خَلْدُونَ (ت 808هـ) مُطَابِقَةٌ كُلُّ المُطَابَقَةِ للبُدَاةِ المُلَثَّمِينَ مِنْ أَسْلافِ أَهْلِ شنقيط، فهذهِ الطَّبَقَةُ مِنْ صنهاجَةَ

[[هُمُ المُلَثَّمُونَ المُوَطَّنُونَ بالْقَفْرِ وراءَ الرِّمالِ الصَّحراوِيَّةِ بالْجَنُوبِ، أَبْعَدُوا في الْمَجَالاتِ هُنَالِكَ، مُنْذُ دُهُورٍ، قَبْلَ الفَتْحِ، لا يُعْرَفُ أَوَّلُها، فأَصْحَرُوا عنِ الأريافِ، ووَجَدُوا بِها المُرَادَ، وهَجَرُوا التُّلُولَ وجَفَوْها، واعتاضُوا مِنْها بألبانِ الأنعامِ ولُحُومِها، انتباذًا عنِ العُمْرانِ، واستئناسًا بالانفرادِ، وتَوَحُّشًا بالعِزِّ عنِ الغَلَبَةِ والقَهْرِ]]

ونَصُّ ابْنِ خَلْدُونَ هذا كثيرُ الدَّوَرَانِ في كلامِ مُؤَرِّخِي شنقيط مِنَ الْمُحْدَثِينَ، وهُوَ بليغٌ في عِبَارَتِهِ، صادِقٌ في مِعْناهُ، وحَسْبُكَ أنْ تَعْرِفَ أنَّ “الانتباذَ عَنِ العُمْرَانِ” لَيْسَ هُوَ إلَّا “استئناسًا بالانفرادِ، وتَوَحُّشًا بالعِزِّ عنِ الْغَلَبَةِ والقَهْرِ”! ونُوْشِكُ أن نَّقِفَ عَلَى هذهِ الصِّفَةِ في غَيْرِ صَفْحَةٍ مِّنْ صَفَحَاتِ الشَّنْقيطيِّ، بَلْ إنَّ ابْنَ رازِگه لَمَّا أَعْجَزَهُ أن يَنْهَضَ بصحرائِهِ، وأَيْأَسَهُ أن يَدْفَعَ التَّطَاحُنَ بَيْنَ أَهْلِ القَلَمِ وأَهْلِ الشَّوْكَةِ، وبَعْدَ أنْ ذَهَبَ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ؛ المَوْلَى إسماعيل، والأميرُ البَطَل أعلي شنظورة، وشَيْخُهُ الطَّالِبُ مُصْطَف، وخَلَّفُوهُ كالسَّيْفِ فَرْدًا = كَرَّ رَاجِعًا إلى شنقيط لِيَلْقَى وَجْهَ اللهِ فيها، حَزِينًا، كَسِيرًا، وكانَ، كُلَّما آبَ إليها، وَجَدَها كما هِيَ، آمِنَةً مُّسْتَقِرَّةً، وإنِ ابْتَلَعَتِ المَقْبَرَةُ الَّتي طالَما ناجاها، وُجُوهًا كانَ يَعْرِفُها، وكأنَّهُ صَدَّقَ كلامَ ابْنِ خَلْدُونَ، وبَيْنَهُما مَشَابِهُ قَوِيَّةٌ، فآثَرَ “الانتباذَ عنِ العُمْرانِ”، و”الاستئناسَ بالانفرادِ”؛ أَلَمْ يَسْقُطْ كُلُّ شيْءٍ مِّنْ حَوْلِهِ ويَتَهَدَّمْ إلَّا شنقيط الَّتي لَمْ تُزَيِّن لَّهُ قُصُورُ السُّوسِ ومكناسةِ بالهِجْرَةِ عَنْها، “فَقَدْ كُتِبَ عَلَيَّ السَّفَرُ في مَنَاكِبِ أَرْضِ اللهِ الواسِعَةِ… وإنْ كُنْتُ قَضَيْتُ جُلَّ حياتي خارِجَ مَدِينتي شنقيط إلَّا أنِّي لَمْ أَتَّخِذْ غَيْرَها وَطَنًا… بَلْ كانَتْ تَرْحَلُ معي في كُلِّ مَكَانٍ زُرْتُهُ، وأراها في كُلِّ مَشْهَدٍ أَعِيشُهُ، وأَتَزَوَّدُ مِنْ ذاكِرَتِها العَطِرَةِ في ترحالي” (ص 202)، وهَدَاهُ ضَرْبُهُ في الأرضِ واتِّصَالُهُ بالدُّوَلِ والسَّلاطِينِ والإماراتِ والزَّوَايا = أنَّ الأَوْلَى لِلشَّنْقِيطِيِّ إصلاحُ نَفْسِهِ إنْ أَعْجَزَهُ إصلاحُ وَطَنِهِ؛ فـ “خَلاصُ النَّفْسِ أَوْلَى مِنْ طَلَبِ إصلاحِ النَّاسِ… بَلْ إنَّ حَمْلَ النَّاسِ عَلَى العَدْلِ والفَلَاحِ غالِبًا مَّا يُؤَدِّي إلى ضَرَرٍ أَكْبَرَ وشَرٍّ أَوْسَعَ؛ لِمَا للقُوَّةِ مِنْ أَثَرٍّ مُّضِرٍّ، وما تُفْضِي إليهِ، في الغالِبِ، مِنْ شَطَطٍ وتَجَاوُزٍ” (ص 215)، وإنَّهُ لَيَرَى بِعَيْنِ السِّياسِيِّ الحَكِيمِ ما يَطْوِيهِ الغِيْبُ لبِلادِهِ، وما تُخَبِّئُهُ أُورُبَّةُ لَهَا ولأَخَوَاتِها مِنْ أسبابِ الْغَلَبَةِ والْبَطْشِ، وإنِ استخْفَى رُسُلُها في زِيِّ تاجِرٍ ورَحَّالَةٍ “فأينَ الْمَفَرُّ، وقَدْ أَقْفَرَتْ حَوَاضِرُ العِلْمِ والدَّعْوَةِ، وتَحَلَّلَتْ إماراتُ الحُكْمِ، واشتدَّ خَطَرُ الغُزَاةِ البُغَاةِ؟ لَمْ يَبْقَ إلَّا الاحتماءُ بشنقيط، وهَلْ فيها مَلْجَأٌ وحِمَايَةٌ، أَمْ هِيَ اليَوْمَ مَنْفَى المُعْتَزِلِ، بَعْدَ أنْ قَلَّ السُّكَّانُ، وتَضَاءَلَتِ التِّجارةُ، وانقطعَتِ السُّبُلُ؟” (ص 214)

كانَ ابْنُ رازِگه آخِرَ القُدَماءِ، عاشَ، كما عاشَ أسلافُهُ مِنْ قَبْلِهِ، وثَقِفَ ما ثَقَفُوهُ، وتَرَقَّى في العُلُومِ كَمَا تَرَقَّوْا، وَصَفَهُ صاحِبُ فَتْحِ الشَّكُور في معرفةِ أَعْيَانِ عُلَمَاءِ التَّكْرُور بِكَوْنِهِ “فَرِيدَ دَهْرِهِ، ووَحِيدَ عَصْرِهِ، صَدْرًا مِّنْ صُدُورِ العُلَمَاءِ، ومَفْخَرًا مِنْ مَفَاخِرِ الأُدَباءِ (…) كانَ أَشْعَرَ زَمَانِهِ، وفارِسَ مَيْدَانِهِ، شَهِدَ لَهُ بذلكَ المُوَافِقُ والمُخَالِفُ، وأَقَرَّ بِهِ المُعَادِي والمُحَالِفُ”، لَكِنَّهُ أَرْجَأَ اعتِزالَهُ، حتَّى حِينٍ، وكانَ أَوَّلَ المُحْدَثِينَ؛ استقبلَتْهُ قُصُورُ السَّلاطِينِ، وفاوَضَ الأورُبِّيِّينَ، وجالَسَ السُّفَرَاءَ والرُّسُلَ، رَأَى بِعَيْنَيْهِ تَقَوُّضَ حضارةٍ، هِيَ حضارةُ قَوْمِهِ، ومُسْتَهَلَّ حضارةٍ غَزَا بِها الغَرْبُ العالَمَ، ومِنْ بَيْنِهِ صحراؤُهُ، وانتهَى إليهِ مِنْ أنباءِ مَبَاهِجِها أحاديثُ عنِ المطبعةِ، والدُّستُورِ، وتَسَامَعَ بِشَيْءٍ مِّنَ المَعارِكِ بَيْنَ الكنيسةِ في أُورُبَّةَ والمُصْلِحِينَ الثَّائِرِينَ بِها، وهَيْنَماتٍ لَيسَتْ ذاتَ شأْنٍ عَنِ الفلسفةِ الحديثةِ، وعَرَفَ بَشَاعَةَ آلةِ القَتْلِ، واطَّلَعَ، مِنْ كَثَبٍ، عَلَى طلائِعِ استعمارٍ قادِمٍ مِّن وَرَاءِ البِحَارِ، كانَ، في أَوَّلِ أَمْرِهِ، شرِكاتٍ تِجَارِيَّةً هُولنديَّةً وفرنسيَّةً، وما فاتَهُ أن يُدْرِكَ ما ستؤولُ إليهِ مِنْ تَغَلُّبٍ وغَزْوٍ واحتلالٍ، وأنَّهُمْ “لَيْسُوا ضُيُوفًا رُحَّلًا ولا زُوَّارًا مُؤَقَّتِينَ، بَل لَّهُمْ نُزُوعٌ جَلِيٌّ للإقامةِ والمُكْثِ والسَّيْطَرةِ، ولَهُمْ شَوْكَةٌ لا نَدْرِي عَنْها شيئًا، ولَوْلا ما أَخْبَرَنِي بِهِ “ابْنُ عايشةَ” في مِكْناس لَبَقِيتُ مِثْلَ غَيْري أرى فيهمْ مُجَرَّدَ بَيْتِ تِجَارَةٍ يَسُوسُهُ أقوامٌ مِّنَ الرُّومِ يَخْدُمُهُمْ أعوانٌ مِّنْ بِلادِ السُّودانِ، والْحالُ أنَّهُمْ مَمَالِكُ عُظْمَى أَبْدَعَتْ مِنْ صُنُوفِ العِلْمِ والقُوَّةِ والتَّدبيرِ ما سَيَكُونُ لَهُ أَكْبَرُ الأَثَرِ عَلَيْنا وعَلَى العالَمِ كُلِّهِ مِنْ حَوْلِنا” (ص 72)، وأَيْقَنَ أنَّ بِلادَهُ شنقيط لَيْسَتْ، كما يَظُنُّ قَوْمُهُ الأَدْنَوْنَ “أنَّ الكَوْنَ الأكبرَ انْطَوَى فيهمْ، وأنَّهُمْ مَرْكَزُ الدُّنيا وتِبْرُها النَّادِرُ”! (ص 71)

أَتَمَّ ابْنُ رازِگه رِسالتَهُ إلى مَن لَّا نَعْرِفُهُ – ولَعَلَّهُ “الشَّنقيطِيُّ” أَيًّا يَكُنْ، ورُبَّما كانَ أنا وأنتَ وأنْتِ مِنْ قُرَّاءِ السَّيِّدِ وِلْد أباه – بهذهِ الأبياتِ الَّتي تَنْطَوِي عَلَى خلْطَةٍ مِّنْ “إيمانِ العَجَائِزِ”، كما يُؤْمِنُ والِدُهُ، وحُرْقَةِ الشَّوْقِ، كما يُؤْمِنُ عبدُ الرَّحيمِ المجذُوبُ، ومِنْ هذينِ العُنْصُرَيْنِ تتألَّفُ شخصيَّةُ سِيدي عبد الله بن محمَّد ابْن القاضي – أو الغاظِي! – عبدِ اللهِ الشَّنْجيطيِّ العَلَوِيِّ، المشهورِ بِـ “ابْنِ رازِگه”، المولودِ سَنَةَ سِتِّينَ وأَلْفٍ، والمُتَوَفَّى سَنَةَ أَرْبَعٍ وأربعينَ ومِئَةٍ وأَلْفٍ للهِجْرَةِ، آخِرِ القُدَماءِ، في بِلادِ شنقيط، وأَوَّلِ المُحْدَثِينَ!

تَبَجَّحْتُ عِنْدَ المَوْتِ، والمَوْتُ بُغْيَتِي وَلَوْ كُنْتُ هَتَّاكًا لِمَا اللهُ حَرَّمَا

وَطَابَتْ [بِهَا] نَفْسِي لِأَنِّيَ قَادِمٌ عَلَى خَيْرِ مَقْدُومٍ عَلَيْهِ وَأَكْرَمَا

عَسَى غَافِرُ الزَّلَّاتِ يَغْفِرُ زَلَّتِي وَيَسْتُرُ أَوْزَارِي وَمَا قَدْ تَقَدَّمَا

#حسين_بافقيه

جُدَّة ٢٦ صَفَر ١٤٤٦هـ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى