تلج الدولة الموريتانية عقدها السابع، بعد مسيرة حافلة بالإخفاقات والنجاحات، وتبرز اليوم بإلحاح ضرورة إجراء مراجعات قوية في اتجاه هز الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من أجل تحقيق حركية جديدة تؤسس للعبور الآمن بالبلاد إلى مصاف الدول العصرية الديمقراطية المزدهرة.
لقد خلصت أبحاث عديدة حول قضايا الدولة والديمقراطية والتنمية إلى وصفة تؤكد وجوبَ العمل على ثلاث جبهات أساسية، أولها بناء مؤسسات حكومية مستجيبة وفاعلة، وثانيها تعزيز الاندماج المجتمعي القائم على المواطنة المتساوية، وثالثها بناء اقتصاد متماسك يحقق الرفاه للسكان.
وبالنظر إلى الحالة الموريتانية؛ يتضح أن البلاد بالفعل بحاجة إلى فتح أوراش كبرى على الجبهات الثلاث: الإدارة، الوحدة الوطنية، الاقتصاد، والتي نعاني فيها من صعوبات وتحديات، بات التعامل معها بجدية وحزم ضرورة وطنية وفريضة شرعية وسياسية، ومن حسن الحظ أن التوجهات العامة والمبادرات الجارية لرئيس الجمهورية، السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، لا تعبر عن الانشغال بهذه التحديات فحسب، بل تعكس إرادة صادقة لتحريك الأوضاع باتجاه تحقيق تقدم على هذه الجبهات الساخنة.
أولا- نحو مجتمع مندمج
يمثل التماسك المجتمعي، القائم على الإخاء والعدل، والمواطنة المتساوية أمام القانون، هدفا مركزيا وشرطا لازما لقيام الدول، وضمان استمرارها وتقدمها، وتعزيزُ الوحدة الوطنية وتحصينها هو ثمرة تكامل بين الجهود المجتمعية الرامية إلى تعزيز التسامح والترابط، ونبذ المفاهيم الضيقة، بموازاة مبادرة الدولة إلى أداء وظائفها في الصحة والتعليم والتشغيل والأمن، بما يجعل ولاء الناس يتدفق نحو الدولة بدل الهويات الفرعية.
ويميز “جويل مغدال” بين الدولة القوية والدولة الضعيفة من منظور العلاقة بالمجتمع، حيث يعتبر الدولة القوية بالنسبة إليه هي ذات التغلغل في مجتمعها، والتي تكون قيمها السياسية والاقتصادية في مصلحة مجتمعها، وتُعْلِي قيم المواطنة والتضامن والثقة بين مكونات المجتمع المختلفة. وفي المقابل، فإن الدولة الضعيفة، وفق “مغدال”(J. Migdal)، هي العاجزة عن تنمية مجتمعها وتحقيق مصالحه، وهي في هذا تتخذ موقفا عدائيا منه وتناهض تنظيماته المدنية وأحزابه السياسية، فتنعدم الثقة بها.
وتنزع الدولة في هذا النموذج نحو تكريس الروابط العمومية القائمة على القبيلة والعشيرة والانتماءات الإثنية الأخرى، وهو ما ينشئ مجتمعا ضعيفا، تتكرس فيه الإخفاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وينتشر فيه الفساد والمحسوبية.
والحقيقة أن خطاب رئيس الجمهورية في مدينة وادان كان موفقا في التعبير عن الانشغال العميق بوحدة المجتمع وتماسكه، وتوجيه الشعب نحو التكامل، واستثمار ثرائه المتنوع في التأسيس لمجتمع المواطنة المتساوية أمام القانون، والنابذة للمفاهيم الخاطئة، وهو جهد تنويري لا يقل أهمية عن المبادرات والبرامج الجارية في مجال مكافحة الغبن والتهميش ومحاربة الفقر والتركيز على التنمية، أي مراعاة البعد الاقتصادي والاجتماعي والإنمائي للديمقراطية، الذي يقوم على فكرة التضامن الاجتماعي، وهي إحدى ركائز بناء الدولة ووحدتها، وتشكل صمام أمان وشرطا أساسيا للعدالة واستقرار النظام.
ثانيا- نحو إدارة كفؤة ومحايدة
الجبهة الثانية في عملية الإصلاح هي بناء مؤسسات حكومية مستجيبة وفاعلة، وبناء إدارة تقوم على الكفاءة والاستحقاق المهني، إدارة ترتكز على قيم الجدارة والتميز والتجرد والمسؤولية وأخلاقيات العمل واحترام القانون، على نحو يعيد إلى الذهنية العامة مفهوم “الوظيفة والخدمة العامة، وما تمثل من أبعاد إنمائية واجتماعية، ومن تحريك لعجلة الدولة والدورة الاقتصادية، ويبعد الإدراك العام عن منطق التعامل مع الوظيفة العامة كأنها متاع أو وسيلة عيش وعمل، وفي كثير من الأحيان وسيلة سلطة ونفوذ”.
إن الخدمة العمومية – كما يفهم في جميع دول العالم الناهض – عمل يرتقي فيه المواطن إلى أسمى العطاء العام، بما يؤكد مواطنيته وانتماءه إلى وطن ودولة.
إن بناء إدارة حيادية وشفافة وخلاقة يمثل ضرورة قصوى من أجل تقوية الدولة وجعلها قادرة على مجابهة التحديات المتشابكة، وقد بدأ الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني عملية الإصلاح المؤسسي من خلال إعادة الحياة للمؤسسات الحكومية، ومنحها الصلاحيات والوسائل لضمان السير المنتظم لعملها وإنفاذ خططها وبرامجها، وهو التوجه الذي تجري مسايرته من خلال التقييم والمتابعة المستمرة، وتفعيل دور المؤسسات الرقابية، وسيكون التوجه نحو التمكين للكفاءات الوطنية الشابة في كل المستويات عملا حاسما في تحقيق النتائج المرجوة:
“إن قناعتي الراسخة بأن النهوض ببلدنا موقوف على نجاحنا في أن نوفر لكم تعليما ذا جودة عالية، وتكوينا مهنيا ناجحا، وأن نمكنكم من ولوج سوق العمل والمشاركة في صنع القرار على مختلف المستويات، من أجل الاستفادة القصوى من طاقاتكم الإبداعية كفاعل أصيل، عليه معقد الأمل فيما نسعى إليه من تطور وتنمية وازدهار”.
ثالثا- محاربة الفساد
الورش الثالث الذي يمثل استحقاقا، من الواجب كسبه، هو محاربة الفساد، الداء الذي ينهش النسيج الاجتماعي من جوانبه الثقافية والسياسية والاقتصادية، حيث تعتبره منظمة الشفافية العالمية “من أكبر التحديات التي تواجه عالمنا الحديث، فهو يقوض الحكم الصالح، ويشوه السياسة العامة، ويدفع إلى إساءة توزيع الموارد، ويضر بالقطاع الخاص وتنميته، ويلحق أكبر الضرر بالفقراء”.
إن هناك وعيا وطنيا متزايدا بخطر الفساد، الذي هو انحراف عن القيم الأخلاقية والقانونية ومبادئ الدولة الحديثة، بما يؤدي إليه من هدر للموارد وزيادة في كلفة المشاريع وتلاعب بالمؤسسات والقوانين، بل إن هناك دراسات تؤكد دور الفساد في إشعال النزاعات المسلحة والحروب الأهلية.
إن هذا الوعي الوطني والتراكم الحاصل في محاربة الفساد، لاسيما بعد التحقيق البرلماني في ملفات العشرية، يتعزز اليوم بتفعيل دور المؤسسات الرقابية وبراءة السلطة التنفيذية، ممثلة في رئيس الجمهورية، من أن تكون السلطة بيئة حاضنة أو حامية أو مسهلة للفساد، وكما قال رئيس الجمهورية في خطاب الاستقلال:
“نحن لا نريد لمحاربة الفساد أن تكون شعارا، أو أن تتحول هي نفسها إلى فساد بالانتقائية، وتصفية الحسابات، والوقيعة في أعراض الناس دون قرينة أو دليل، بل نريدها عملا مؤسسيا فعالا، تصان به موارد الدولة، وينال به المفسدون جزاءهم طبقا للنصوص السارية المفعول”.
تقف الدولة الموريتانية على مفترق طريق لا محيد عنه، ونرجو أن توفق البلاد في تحقيق إصلاحات جوهرية، تضمن تقوية الدولة، وتماسك المجتمع والإقلاع التنموي، وإن التوجهات والمبادرات المعبر عنها من قِبَلِ رئيس الجمهورية، محمد ولد الشيخ الغزواني، يجب التقاطه بشكل واعٍ ومؤازرتها واستثمارها بشكل ايجابي في اتجاه العبور الآمن بالبلاد نحو آفاق رحبة من الاستقرار والتنمية.