يوم عرفة، يوم الحج الأكبر.. ارتبط اسمه وصومه لدى عامة الناس بالوقوف على جبل الرحمة؛ إذ يعتبر ذلك الوقوف من أعظم الأعمال التي تميز هذا اليوم الجليل، وهو ارتباط كان منذ سنوات مصدر إشكال ومثار جدل بين علماء موريتانيا.
منعت الطبيعة البدوية والعزلة الحضارية الطويلة الشعبَ الموريتاني من التزام مشهور مذهب مالك في عموم الرؤية، فأتى عليه حين من الدهر تصوم كل قرية من قراه برؤية عدولها، لكن منذ انفجار ثورة الاتصالات الحديثة وهو يعيش في كل مناسبة دينية ارتباكا وتساؤلا: أيصوم أم يفطر؟ أيعتبر اليوم عيدا أم لا؟
آراء متضاربة وخلاف متجدد، ربما ميزه هذا العام ارتفاع حدة الخلاف، واتهام البعض لمخالفه بقلة الفقه، وقصور الفهم، وإثارة الشك في نفوس العامة، والتشويش عليهم، أما الطرف الآخر فقد اتهم مناوئه بأنه خالف مشهور المذهب، وحَمَل الناس على صوم يوم العيد المحظور، في وقت حلق الحجاج رؤوسهم ونحروا وتحللوا !
ما إن تغوص في حيثيات هذا الجدل حتى يحيلك إلى أسئلة فقهية ثلاثة تؤطر الموضوع وتحيط بجوانبه، وهي: هل عرفة يوم التاسع أم يوم وقوف الحجيج؟ هل في المذهب المالكي تقييد لعموم الرؤية؟ كيف تكيف هذه النازلة.. أهي اختلاف في الرؤية أم شك؟
السؤال الأول: هل عرفة يوم التاسع أم يوم وقوف الحجيج؟
يقول الشيخ عبد الرحمن بن فتى “إن عرفة يوم وقوف الحجيج، وعليه فصيامه يجزئ لمن تخلفت رؤية بلده عن السعودية”.
أما الشيخ ولد سيدي يحي فيقول: “يوم عرفة يوم التاسع، ويوم التاسع مبني على رؤية الشهر”، ويتساءل ولد سيدي يحي مستغربا: ماذا لو أن السعودية هي المتأخرة في الرؤية؟ هل ستُوقف الحجاج بعرفة بناء على رؤية جيرانها؟
وهل كان المسلمون في السابق ينتظرون بصوم عرفة قدوم الحجاج ليخبروهم بوقوف عرفة؟
ويسير في نفس الاتجاه إمام الجامع الكبير قائلا: إن تعدد العبادات باختلاف الأزمنة جار في الصلوات والصيام والإفطار، مؤكدا أن وقوف عرفة مبني على رؤية بلد آخر، انطلاقا من قوله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته).
ولأن الفارق في التوقيت كبير بين السعودية وموريتانيا يرى الشيخ محمد الحسن ولد الددو أن الأفضل صوم عرفة هذا العام يوم السبت، وفقا للرؤية الموريتانية، وصوم الجمعة على أنه يوم التروية، ويضيف الشيخ: نصوم بالرؤية الموافقة لتوقيتنا، وذلك هو الراجح الذي يقوم على الأدلة والبراهين.
السؤال الثاني: هل في المذهب المالكي تقييد لعموم الرؤية؟
توحيد الرؤية هو مذهب الجمهور، وهو المشهور عند المالكية، وحسب الشيخ محمد سالم المجلسي فهو المشهور المعتمد عند الأحناف، وهو المذهب عند الحنابلة، وهو رواية ابن القاسم وابن وهب والمصريين عن مالك، ورواية عن الشافعي ذكرها البغوي.
ويعتقد كثير ممن يربطون عرفة بوقوف الحجيج أنهم يتبعون مشهور مذهب الإمام مالك في عموم الرؤية، ولكن ولد سيدي يحي يرى “أن في ذلك تحايلا؛ إذ إن شراح خليل خصوصا قيدوا عموم الرؤية بقولهم: ما لم تتباعد الأمصار والأقطار”، كما أن وقد ذهب هذا المذهب حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، فقال: لأهل الشام رؤيتهم ولنا رؤيتنا.
وعلى منوال ولد سيدي يحي أفتى الشيخ الددو وإمام الجامع الكبير الشيخ أحمدو ولد حبيب الرحمان.
السؤال الثالث: كيف تكيف هذه النازلة.. أهي اختلاف في الرؤية أم شك؟
يميل الشيخ عبد الرحمن بن فتى إلى القول بأنها تدخل في باب الشك، ويقول: إن الأفضل لمن تأخر بلده في الرؤية عن السعودية أن لا يصوم يوم عرفة بالنسبة له؛ لأن ذلك يوقعه في تعارض بين المندوب (صوم عرفة) والمحرم (صوم العيد)”.
ويرى الشيخ المجلسي أن من اعتبر الرؤية المتقدمة عملا بعموم الرؤية، وصام يوم عرفة يوم الوقوف، سلم من وقوف حائر بين الندب والحرام.
ويعترف الشيخ محمد الحسن ولد الددو أنه إذا اجتمع مانع مع مبيح فالمانع مقدم، لكنه يؤكد أنهما لم يجتمعا في حالتنا، ولم يتعارض لدينا الشك مع اليقين، فالتاسع بالنسبة لهم بالرؤية، والثامن بالنسبة لنا برؤيتنا، واللازم لأهل كل بلد ما يحكم به حكامهم، والناس مخاطبون بمقتضى علمهم لا بعلم الآخرين.
ولا يبدو قريبا حسم الجدل الذي قسم البلد فسطاطين، فسطاط يرى علماؤه أن فارق التوقيت الكبير والتباعد الحاصل بين السعودية وموريتانيا عوامل كافية للجزم بأن يوم عرفة ليس بالضرورة أن يكون في موريتانيا هو الموافق لوقوف الحجيج، وأن على المسلم أن يتبع رؤية بلده، وفسطاط يرى أنه اتبع مشهور مذهب مالك في عموم الرؤية، وأن عرفة يوم يقف الحجاج، خاصة بعد أن سهلت ثورة الاتصالات الحديثة معرفة ذلك، مع ما يتضمنه هذا الرأي من الاحتياط، فمن قواعد الفقه أنه إذا اجتمع الحاظر والمبيح قدم الحاظر.