حدثني أحد المسؤولين أنه حضر مُشَادَّةً في الهاتف بين موظفين سنغاليين ووزيرهم، الذي رَغِبَ إليهم أن يوقعوا اتفاقا متعلقا بالنظام الْـجِبَائي لإدارة الجسر الذي سيربط بين ضفتي نهر السنغال، ولم يكن الموظفون راضين عن تفاصيل الاتفاق، لذا رفضوا قائلين: إما أن تأتي إلى انواكشوط لتوقعه بنفسك، أو تبعث من يوقعه نيابة عنك!
لم يَشُكَّ محدثي في إقالة القوم فور رجوعهم إلى بلادهم، فأَسَرَّ بمخاوفه إلى بعض مَن تَوَثَّقَتْ عُرَى الصداقة بينه وبينهم من زملائه السنغاليين، فَطَمْأَنَهُ بأن شيئا من ذلك لن يحدث، فالموظف “عندنا لا يعاقب على مجرد إبداء الرأي، ولا على رفض الأوامر التي لا تَلْزَمُهُ قانونا”.
وقد امتد الحديث وتَشَعَّبَ، حتى عَلِم صاحبُنا أيضا أن الموظفين في الجارة الجنوبية لا يساقون سَوْقًا إلى مهرجانات الحزب الحاكم، ولا يُلزمون بحضور الزيارات الرئاسية والحشد لها، ولا يُقَالُونَ لمجرد تعيين وزير جديد على وزارتهم!
وحدثني أستاذ مصري أنه حتى في ظل أعتى أنظمة الاستبداد حافظت الإدارة المصرية على نظام الترقية بالأقدمية والكفاءة، لذا كنتَ تجد الدوائرَ الحكومية مكتظّةً برؤساء الأقسام والمصالح والقطاعات المنتمين إلى المعارضة، وخلال حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك كان على رأس أغلب كليات الجامعات عمداءُ من جماعة “الإخوان المسلمين”!
يتجدد الحديث عند كل تغيير في الإدارة عن معايير التعيين والترقية، وعن نجاعة الإدارة، وحيويتها، وقدرتها على ابتكار الحلول، وتسهيل حياة المواطنين.
وقد وجدتُ أَنّ حالَ إداراتِنا، التي قطعنا طريقَ استفادتها من الكفاءات من كل وجه، أَشْبَهُ بحال المكتوف الذي يُلْقَى في اليَمِّ ثم يُقَالُ له: إياك أن تبتل بالماء!
أَيُّ نجاعة تُنْتَظَرُ من إدارة تَشترط الولاءَ السياسي في موظفيها؟ أو تُقِيلُهُمْ إذا صَرَّحُوا بما تُمْلِيهِ ضمائرهم المهنية والأخلاقية، لكنه يخالف مزاجَ رؤسائِهم؟
وهل من سبيل إلى إصلاح إدارةٍ لا ينال الموظف فيها من الاستقرار في وظيفته ما يتيح له اكتسابَ الخبرة، والإحاطةَ بخفايا قطاعه، والقدرةَ على الاستشرافِ، والتعاملِ مع الإشكالات المختلفة، واكتشافِ مواطن الخلل؟
وأَيّ عَطَاءٍ يُنتظر من موظف مَلَّ وظيفتَه، وفَقَدَت جاذبيتَها لديه؛ لِخُلُوِّهَا من التحفيز، أو لِتَحَكُّمِ المزاجية والمحسوبية في ترقياتها؟
تحدثت في مقال سابق عن بعض مظاهر فساد الإدارة، التي أصابتها بالترهل والعجز، ومنها ظاهرة “الْمِظلِّيّين” parachutistes، وهي فئةٌ تُعَيَّنُ فجأة على رأس قطاعات لا صلة لها بها، ولم تَخْبُرْهَا من قبل، وكثيرا ما كان تعيينُها على حساب قدماء موظفي القطاع، مما يصيبهم بالإحباط واليأس، ويقتل روحهم المعنوية.
ومنها ازدراء الخِبْرَة والأقدمية، حتى رأينا تَقَلُّدَ منصب “المستشار القانوني” مِن قِبَلِ المتخرج حديثا!
ومنها تعيينُ غير الموظفين العموميين في المناصب التي قَصَرَهَا القانون عليهم…
إن إصلاح الإدارة يقتضي حيادها، وعدم تدخلها في الاختيارات السياسية للمنتسبين إليها، ومعاملتهم على أساس الكفاءة لا الولاء، واحترام النصوص المنظمة لها وتحيينها الدائم، وتقدير الكفاءة والتجربة والأقدمية، وفتح الباب للترقي التلقائي في سُلَّمِ الوظيفة.