تَخَيَّلْ أنك أمضيت عشرين سنة في قطاع ما، أفنيتَ فيه زهرة شبابك، وخَبَرْتَ أموره، وراكمت التجارب، وصار عليك الْمُعَوَّلُ في كل ما يتعلق به، فلما أَظَلَّ وقتُ تقاعدك الْتَفَتَّ يمينا وشمالا تنتظر المكافأةَ، وتقديرَ الجهد والاعتراف بالفضل، ثم فجأة يُعَيَّنُ على قطاعك شَابٌّ غِرٌّ، نَزَلَ به كَمِظَلِّيٍّ قَدير!
إن لم تستطع تَخَيُّلَ ذلك فيمكنك أن تراه رَأْيَ العين متى شئت، فإداراتُنا اليومَ تَعُجُّ بمثله، وقد قيل “إن الحقيقة تكون أحيانا أَغْرَبَ من الخيال”.
ليس أَقْتَلَ للروح المعنوية للموظف من هذا!
يُسَمِّي موظفو القطاع العام هذه الفئة التي تُعَيَّنُ فجأة على رأس قطاعات لم تَخْبُرْهَا من قبل بـ”الْمِظلِّيّين” parachutistes، وليس سِرًّا أنّ بعض هؤلاء المظليين مكث أشهرا وهو يتململ على كرسيه، يُرَاوِحُ بين قَرْعِ السِّنِّ وَوَضْعِ الكَفِّ على الذَّقَن حيرةً، فقد هَجَمَ على أمر ليست له به دِراية ولا تجربة، ولم يجرؤ مرؤوسوه على تكليمه لأنه جاء بإرادة عليا!
أصبحت إداراتُنا تزدري الخِبْرَةَ والأقدمية ازدراءً خطيرا، حتى رأينا مَن يتقلد منصب “المستشار القانوني” ولم يمض على تخرجه من الجامعة غيرُ سنوات معدودة!
وقد نال قطاع الوظيفة العمومية في العِقد الأخير من الظلم والتهميش ما لم ينله في أَيِّ وقت سابق، وتم انتهاك نصوصِه كما لم تُنْتَهَكْ من قبل، فكم من منصبٍ قَصَرَهُ القانون على الموظف العمومي ثم تَبَوَّأَهُ عاطلٌ قَدِمَ من الشارع لِتَوِّهِ!
إن إصلاح الإدارة يقتضي أن تكون الترقيةُ تلقائيةً، لا دَخْلَ للمِزَاج فيها، ينالها صاحبها بكفاءته وأقدميته وأدائه، لا يمنعه منها إلا إِخْلَالٌ بَيِّنٌ بواجباته، تُثْبِتُهُ جهةٌ غيرُ مُتَّهَمَة.
إن نظام الترقية التلقائية حافز غيرُ مُكَلِّفٍ للدولة، يَكْسِرُ رتابة الوظيفة ومللها في نفس الموظف لأنه ينتظره على أَحَرَّ من الجمر، وغيرُ خَافٍ أن كثيرا من الوظائف العمومية فقدت جاذبيتها لِخُلُوِّهَا من التحفيز، أو لِتَحَكُّمِ المزاجية والمحسوبية والزبونية في ترقياتها.
إن إصلاح الإدارة يبدأ قبل كل شيء من احترام نصوصها، ومن التحيين الدائم لتلك النصوص، ومن تقدير الكفاءة والتجربة والأقدمية، ومن فتح الباب للترقي التلقائي في سُلَّمِ الوظيفة.