يجد أنصار اللغة العربية، وهم يستعدون للاحتفال بيومها العالمي الذي يوافق غدا السبت، بَسْطَةً في القول، وسَعَةً في الفكر، وطلاقة في اللسان، وهم يتحدثون عنها، ويُلْفِي أكثرُهم نفسَه محتارًا حيرةَ خِدَاشٍ حين تكاثرت عليه الظباء:
تكاثرت الظباء على خداش ** فما يدري خداشٌ ما يصيد
إن أكثر ما تعاني منه العربية اليومَ تغييبُها عن التداول في ميادين الحياة المختلفة، مما أفقدها الجاذبية عند البعض، فتوهموا أنها قاصرةٌ عن أداء بعض ما تستطيع لغاتٌ أخرى تأديته، رغم أنك تجد أكثرهم لا يشك – نظريا على الأقل – في قدرتها على استيعاب العلوم الجديدة، وتسمية ووصف مصطلحاتها ومخترعاتها.
أنفقتُ جهدا – لا يخلو من طرافة – في ربط معاني الشعر القديم بما يعيشه التلاميذ، أو بما يدرسونه، فَعَلِمْتُ ما لذلك من أَثَرٍ في تقريب المعنى إلى أفهامهم، وتحبيب العربية إلى نفوسهم، فضلا عما أَحَسُّوهُ من متعة في هذا المسلك.
قلت لهم مرة إن النابغة الذبياني سبق العالم الروسي “بافلوف” إلى اكتشاف “المنعكس الشرطي”، حين قال:
إِذا ما غَزوا بِالجَيْشِ حَلَّقَ فَوقَهُم ** عَصائِبُ طَيرٍ تَهتَدي بِعَصائِبِ
لَهُنَّ عَلَيهِم عادَةٌ قَد عَرَفْنَها ** إِذا عُرِضَ الخَطِّيُّ فَوقَ الكَواثِبِ
وقَرَّبْتُ لهم بيت الحكيم أبي تمام حبيب بن أوس الطائي:
فَتًى مات بين الضَّرْبِ والطَّعْن ميتةً ** تقوم مقام النصر إذ فاته النصر
بقولي: أرأيتم لو خاض فريقُ الكرة الذي تشجعونه مباراةً، فأبلى فيها بلاء حسنا، ثم لم يُكتب له الفوز، ألستم تعتذرون عنه بأن بلاءَه الحَسَنَ خيرٌ من ألف فوز؟!
قالوا: بلى!
قلت: فقد اعتذر أبو تمام بمثل اعتذاركم هذا عن صاحبه الشهيد!
وقد رفضوا مرة التسليم بأن “لا عَلَيَّ ولا لِيَّا” في قول المجنون:
على أنني رَاضٍ بأن أحمل الهوى ** وأخرج منهُ لا عَلَيَّ ولا لِيَّا
من باب “طباق الإيجاب”؛ فسألتهم: ألم تدرسوا في الرياضيات أن: سالب × سالب = موجب؟
قالوا: بلى!
قلت: فالطباق هنا صار بين “عليّ” و”لي” فقط، بعد أن ارتفع التضاد بين النفيين، و”طباق السلب”، الذي زعمتم وقوعَه هنا، إنما يكون إذا وُجد النفي في طرف واحد من طرفي الطباق !
وكان سلفٌ لتلامذتي أولئك، قد استنكروا إخباري إياهم أن امْرَأَ القيس كان يجهل البحورَ التي ينظم فيها شعره، وأنه لم يكن يميز بين الفاعل والمفعول!
فقلت لهم بعد أن هدأت صيحات إنكارهم: هل كانت الجاذبية موجودة قبل “انيوتن”، أم لم توجد إلا حين اكتشفها في القرن السابع عشر الميلادي؟!
فقالوا: بل وُجِدَتْ منذ أن خلق الله السمواتِ والأرضَ!
قلت: فكذلك الظواهر اللغوية، ومنها الأوزان الشعرية، سَبَقَتْ مَن اكتشفوها، ولم تكن معروفة بأسمائها قبلهم، بل كان الأولون يتحدثون بها سليقة، ثم جاء اللاحقون في قرون تدوين العلوم، فوصفوها ووضعوا قواعدها، كما وصف “انيوتن” الجاذبية وقَدَّرَها !
وقد لاحظت أن نزعة “النسوية” تسرّبت إلى فكر البنات منذ فترة، فلم يعد بُدٌّ من التعامل بحكمة مع حماسها الجارف، فقلت لهن: إن المرأةَ كانت عند ذوي الْمُروءات، في المجتمع العربي القديم، محفوظةَ المكانة، مصونة الحقوق، سيدةَ بيتها بلا منازع، مطاعةً فيه، آمِرَةً، ناهيةً، ألم تسمعن إلى قول لَقِيط بن أوفى الْمِنْقريّ:
وما أنا بالسّاعي إلى أُمّ عاصمٍ ** لِأَضْربَها إنّي إذاً لجهولُ
وما أنا بالْمِنْفاقِ ما في خِبائها ** ولا أنا عمّا غيَّبتْهُ سَؤُولُ
لَكِ البَيْتُ إلاَّ فَيْنَةً تُحْسِنِينَهَا ** إذا حانَ مِنْ ضَيْفٍ عَلَيَّ نُزوُلُ
للحديث بقية…