ربما لم يُكتب عَمَلٌ موريتاني مستقل بنفسه، يزيد على جزئين، سوى موسوعة العلامة المختار بن حامد التاريخية، التي تربو على أربعين جزءا، أو أطروحة الدكتور أحمد ولد حبيب الله عن النثر الفني الموريتاني، التي ناقشها أخيرا في خمسة أجزاء، وبين كتابة العَمَلين مضى أكثرُ من أربعين سنة!
والواقع أن الجَلَدَ العلمي ومكابدة البحث فُقِدَا في سِنِي انحدارِ البحث العلمي هذه، وأصبح من النادر أن تقع العينُ، على بحوثٍ ورسائلَ من طِرَازِ ما كُتِبَ في أيام الجامعة الأولى، فضلا عن أن تقع على بحث يزيد على جزئين.
وقد اكتشفنا أيام الجامعة أن أساتذتنا الكرام، في موريتانيا وفي غيرها، ألقوا “عصا البحث”، وخَلَدُوا إلى الراحة عند نيلهم درجة الدكتوراه، فلستَ ترى منهم أحدا يكتب جديدا، أو يَكْشِفُ طَرِيفًا..
ثم عاشوا – بعد ذلك – يَجْتَرُّونَ اجْتِرَارًا ما كتبوه في رسائل الدكتوراه، فإذا رغب أحدهم في الكتابة لمجلة علمية عَمَدَ إلى رسالته القديمة فَاسْتَلَّ منها فَصْلًا أو مَبْحَثًا ثم ينشره، لا يكاد يزيد فيه أو ينقص، وإذا دُعِيَ لمحاضرة رَاغَ عن موضوعها إلى ما له علاقةٌ بما كتب في بحثه العتيق!
وقد تداولنا ضاحكين أنهم اقتدوا في ذلك بالتلميذ الذي حَفِظَ إِنْشَاءً عن الجَمَل، فكان لا يُطْلَبُ منه كتابةُ إنشاء إلا لَوَى عنقه حتى يَتَّصِلَ موضوعُه بما يحفظه، ثم يسترسل بعد ذلك في الكتابة مطمئنا، وقد كُلِّفَ يوما أن يكتب عن التكنولوجيا في اليابان، فكتب: اليابان دولة متطورة، فَاقَتِ الدول الأخرى في ميدان تكنولوجيا الحاسب الآلي، والحاسب الآلي آلةٌ مبتكرة لا توجد في الصحراء، لكن في الصحراء يوجد الجمل، وهو حيوان أليف، له مقدرة كبيرة على تحمل العطش والسير الطويل… ثم وَاصَلَ على هذا السَّنَنِ!
وقد مكثتُ فترة أتردّد على بعض المراكز الثقافية في العاصمة، فصادفت جماعة من أساتذة التعليم العالي تشبه “اللُّوبي” أو الجماعة السرية، تحتكر منابرَه لا يصعدها سواهم، ولا يحضرون من الأنشطة إلا ما تعلق بأحدهم، يرددون عليها أفكارَهم المعادة، ويصفقون لبعضهم، ويهزّون رؤوسهم إعجابا!
يعود جانب من ضمور البحث العلمي وتراجعه لدينا إلى الباحثين الذين ركنوا إلى الكسل، واستمرؤوا الراحةَ والخمول، لكن جانبا آخر منه يعود إلى الإهمال الرسمي، الذي وصل حَدًّا عجزت فيه منشورات وزارة الثقافة مجتمعةً أن تبلغ نصف ما نشرته إحدى دور النشر المحلية، وصارت فيه ميزانيةُ حديقة الحيوان تَضْعُفُ ميزانية كلية العلوم ثلاثة أضعاف!