تَأَسَّسَ العَقْدُ الاجتماعي الحديث، الذي تُجَسِّدُهُ الدولة، على تنازل الفرد عن جزء من حريته لصالح الجماعة، وهو تنازلٌ لا يستقيم الاجتماعُ والعمران إلا به، وهو معنى القول السائر: “إن حريةَ أصبعك تنتهي عند أَعْيُنِ الآخَرِين”!
وكثيرا ما أثار هذا التنازلُ جدلا بين فقهاء الدستور، بين مَن يرى منهم أن الدولة الحديثة أَفْرَطَتْ في كبح الحرية الفردية ولَجْمِهَا، ومَن يرى أن تَرْكَ الحبل على الغارب للحرية مُؤْذِنٌ بالخراب والاِحْتِرَابِ الأهلي، ولعلنا من بين شعوبٍ قليلة تخشى اليوم عواقب الحرية المنفلتة.
ربما تكون بلادنا هذه وحدها، مِن بين بلاد الله الواسعة، التي مَرَّتْ عليها قرون طويلة لم تحكمها دولةٌ مركزية، ويُفَسِّرُ ذلك ما نراه من حريةٍ مفرطة في تصرفات أهلها وكلامهم، ولا أَزَالُ أُقَابِلُ من الشعوب الأخرى مَن يستغرب أنه صادف منا مَنْ يَتَوَسَّدُ فَخِذَ زميله في المجلس، أو يستبدل سراويله فيه، ولعله كان سيقضي عجبا لو رآه يجذب ثوبَ امرأة لا يعرفها، مخاطبا إياها بما يخدش الحياء!
وربما غاب عن البعض أنّ تَقَدُّمَنَا في مؤشر حرية التعبير يرجع إلى هذه الحقيقة، والواقع أننا كنا دوما كذلك منذ نشأة الصحافة الوطنية، لكن قياسَ هذا المؤشر حديثُ عَهْدٍ نسبيا.
وعجيبٌ حقا أَنْ تشكوَ الشعوبُ العريقة في المدنية من تَغَوُّلِ الدولة وكبحها للحرية الفردية، في حين نخشى اليوم أن تكون حريتُنا البدوية الجامحة سببا في تفكك الدولة وخرابها!
لقد اصطحبنا معنا – ونحن نَلِجُ عصر الدولة الحديثة – عاداتٍ سلبية كثيرة؛ ورثناها عن عصور البداوة والحرية المطلقة، لكن أخطرَها على الإطلاق تلك التي تناقض طبيعةَ الدولة وجوهرها، وهذه مناسبة للتنبيه على أنها تشكل خطرا على الدين نفسه أيضا، فليس سِرًّا أن هناك موجةَ إلحادٍ صامتة تغزو شبابَ بعض الفئات، وقد ساهم في فُشُوِّهَا سلوكُ بعض مَنْ يُحْسَبُونُ على الدين.
أخيرا.. لا شك أن نَشْرَ حديثٍ خاص وإشاعتَه جريمةٌ تستحق العقوبة، وأغلب الظن أن صاحبَ الحديث لا يقصد الإساءة ولا يُتَّهَمُ بها، لكنَّ لَجْمَ الخواص أسهلُ من لجم العوام في عصر وسائل التواصل الاجتماعي!