في هذا اليوم الذي تتجه فيه الأنظار إلى مبنى البرلمان الجديد؛ أَجِدُ من المناسب أن أتحدث عن برلماني فريد أضاعه قومه، وأيّ فتى أضاعوا لو يعلمون!
إنه نائب روصو السابق وعمدتها، سيدي محمد ﭼـارا، أول عمدة لروصو يُصِرُّ على إلقاء خطاباتِه الرسمية باللغة العربية، وأحد مؤسسي “معاهد ورش لتحفيظ القرآن الكريم وتدريس العلوم الشرعية”.
مكثت معه نصف يوم تقريبا في مكتبه ببلدية روصو، بعد مضي سنتين على انتخابه، تحدثنا خلاله طويلا، وكان أولَ لقاء بيننا وآخِرَه.
خاض سيدي ﭼـارا الانتخابات البلدية والتشريعية سنة 2013، ضد خصومٍ لا ينقص وزن بعضهم عن رتبة وزير، ويناهز وزن آخرين منهم رتبةَ “صديق شخصي لرئيس الجمهورية”، وقد تغلّب عليهم منتزعا عمدية المدينة ومقعديْها في الجمعية الوطنية، لكنه يُصِرُّ على أنه لم ينافس رجالا أقوياء فحسب، بل نافس الدولة نفسها!
يُرجع ﭼـارا فوزه إلى ثلاثة عوامل، هي: وعي الأهالي، وأخطاء المنافسين، وقربه من الناس وخدمته لهم.
وبعد مُضِيِّ سنتين على انتخابه قَدَّمَ لي تفسيرا للإحباط الذي يصيب الناس – عادة – بعد وصول مُرَشَّحِهِمْ إلى مركز القرار، وتَذَمُّرِهِمْ قائلين: كانت خدمتُه لنا قبل انتخابه أفضلَ من خدمته بعد الانتخاب!
“لم أتغير.. لكن ربما كان لقائي سهلا قبل انتخابي نائبا وعمدة، اليوم أصبحتُ نائبا وعمدة وصار لقائي يتطلب بعضَ الانتظار أحيانا.. وربما رَامَ البعض مني خِدْمَاتٍ لا يمكنني تقديمُها خارج إطار الشفافية والنزاهة”.
ويعترف ﭼـارا أنه على صعيد البرلمان لم يُتَحْ له تقديمُ الكثير، شأنه في ذلك شأن البرلمانيين جميعا، بل اقتصر دوره على الاستماع إلى الأهالي، ومحاولة إيصال معاناتِهم وشكاواهم إلى الجهات المعنية، إضافة إلى دوره في الرقابة البرلمانية.
وفي المجال الرقابي يرى الرجل أنه لم يَكُفَّ عن تنبيه الحكومة على هدر المال العمومي في أمور لا طائل منها، ممثلا لذلك باستئجار مَقَارَّ للوزارات في وقت توجد فيه مبان حكومية قديمة، يُغْنِي ترميمُها واستغلالُها عن استئجار مَقَارّ جديدة.
لا يجد ﭼـارا حَرَجًا في الاستماع إلى أفكار لم يسمعها من قبل، بل تراه يُطْرِقُ مفكرا فيما سَمِعَ، كما فعل حين سألته:
– هل تعتقد أن مقاطعة روصو تتعرض لِغَبْنٍ في غِلَالِ (مداخيل) مؤسسة “العَبَّارَة”؟ أليس لها الحق في حصة معينة من تلك الغِلَال؟
– سؤالكم أوحى إِلَيَّ بفكرة.. يجب أن أطرح هذه القضية على جهة الوصاية.. غِلَالُ البلدية من نقطة العبور زهيدة.. أعتقد أننا كنا غافلين عن هذا الأمر!
يرى النائب أن الموقع الأفضل في السياسة هو الوسطية.. أن لا نقبل أن يميل بنا غُلُوُّ المعارضة، ولا نرضى بالانخراط في فساد الأغلبية.
ويؤكد أن الآخَرين يغبطوننا على نعمة الأمن التي نَرْفُلُ فيها، لكنه يحذر من أمورٍ قد يسلبنا استمرارُها هذه النعمة: عدم العدالة، وعدم تكافؤ الفرص في العمل والوظائف، وعدم التوزيع العادل للثروة الوطنية…
ثم يحذر: فقدان العدالة والجوع هي سبب ما نراه من قتل واغتصاب.. هذه تصرفات مخلة بالأمن الداخلي، وتماسك الجبهة الداخلية يَدْرَأُ الأخطار الخارجية، لكن العكس غيرُ صحيح!
يعتقد سيدي ﭼارا أن ممارسةَ الرق بالمفهوم التقليدي لا تزال قائمة في موريتانيا، كما أن آثاره لا تزال موجودة بأشكال مختلفة، ومن أهم الأفكار التي يقدمها لمعالجة هذه الظاهرة: أنه لا يمكن القضاء عليها بين عشية وضحاها، وأنه بالإمكان حلها دون تدخل خارجي، وأن الحل يكون بالتكفل بالضحايا، وتحسين ظروفهم صحةً وسَكَنًا وتعليمًا، مشددا على أن أي أسرة ينجح أحد أفرادها في دراسته فقد وضعت قدمها على أولى درجات الخروج من دائرة الفقر والتهميش.
ثم يضيف: لم أكن أُصَدِّقُ أن بعض الناس بلغوا من الجهل حَدًّا لا يحفظون معه الفاتحةَ نفسها، وكنت أظن أن ذلك ضربٌ من المبالغات، حتى زرت “آدْوَابَه” في المناطق الشرقية فرأيتُه رَأْيَ العين.. اشتركتُ في فتح محاظر هناك ورأيت كيف غَيَّرَ الأمر حياة الناس!
أما أَطْرَفُ أفكار النائب السابق فهي دعوته الدولةَ إلى فتح متحف يُعَرِّفُ بأنماط الرق التي كانت سائدة، ويسارع إلى شرح فكرته: من أجل أن يحارب الناس ظاهرةً ما؛ لا بد أن يتعرفوا عليها وعلى طريقة ممارستها، لكي يستوعبوا بشاعتها.. لا يمكن أن نمحو ثقافتنا وذاكرتنا.. الإنسان لا بد له من ذاكرة!