(إحاطة) كان يسير ببطء غير متعمد على قارعة الطريق، وسط منطقة تفرغ زينه، متوجها نحو ملتقى “اكلينك” تاركا يدا متشائمة خلفه، تشير عبثا وبتكاسل على مئات السيارات الفارهة والفارغة إلا من قائدها.
وجدتني فجأة أقف له بعد أن لمحت فجأة وقارا متقدا على محياه، وغمرني على حين غِرّة نور لحيته ورأسه المشتعل شيبا.
كنت مستعجلا، ولكن معاناة سيدة سمراء بعد ارتفاع أسعار النقل، سَردتها علي قبل قليل، بعد أن اشتريت منها حزمة من النعناع قرب “بيك ماركت” على طريق نواذيبو، ما زال صداها يتردد في ذهني، وما زالت ملامح وجهها الدائري تلاحقني.
كنت مستعجلا، ولكن يوم أمس أيضا، بعد أن تخطيت مُشَرِّقا تقاطع شارع “التِّيوْ” في مقاطعة دار النعيم، تسللت إلي من نوافذ السيارة المكدشة صرخات أحدهم، بدا أنه يلهث منذ ساعات خلف المركبات لتحمله إلى مكان عمله حيث يلتمس رزقه، أو إلى بيته حيث يستريح ويستأنس، دون جدوى.
أسراب من السيارات مرت عليه دون أن تدرك حجم معاناته النفسية، لقد سلب السائق إنسانيتها، ولعله لو تركها وشأنها لتعاطفت معه ولكانت أرحم به من أبناء جنسه، لكنه لم يجد بُدا من الصراخ للتنفيس عن نفسه والتخفيف من وجعه:
– “انتوم إوقف حد منكم، يعطيكم لخل”!
كنت مستعجلا، ولكن تذكرت كم لفحتني أشعة الشمس الحارقة أيام الدراسة على حافة الطريق أنتظر سيارة أجرة، وكيف كنت أستغرب من فعل أصحاب السيارات الخاصة عندما يشيحون بوجوههم عني، ويتجاهلون يدي وهي تناجيهم بإلحاح، وعيناي وهما تترجيان بلهفة.
سألت الشيخ عن وجهته، وبارتباك باد، كارتباكي عند أول عبور لي للحدود الموريتانية، حين سألني الشرطي المغربي:
– فين غادي؟
لم أفهم أولا، ثم قلت له:
– أ أ لعيون.. أو فاس، ارباط !
كذلك رد علي الشيخ:
– أأأ كرفور اكلينيك، أو إلى حيث تذهب أنت…
إنه يريد فقط تقليص المسافة والاقتراب أكثر من عياله في العمود العشرين بعرفات، هناك حيث ينتظر أطفاله بفارغ الصبر عليبات الحليب التي يحملها معه للعشاء.
بابتسامة عريضة افتتح حديثه معي بعد أن استوى على المقعد الأمامي من السيارة قائلا:
– “أنت موفق، في الوقت الذي وقفت لي كنت قد شعرت بآلام في ركبتي وهممت بالجلوس”.
يعمل الوقور مع رجل أعمال في مهنة شريفة، مشرفا على بعض أموره الخاصة، ولكن دخلها كما يبدو لم يكن مريحا على الإطلاق لأب معيل.
يرفض الأب الستيني بإصرار الزيادة الجديدة على أسعار المواصلات، ولا يقبل أن يصل أهله بأكثر من 300 مائة أوقية قديمة، ولكن سائقي سيارات الأجرة امتنعوا عن ذلك.
لم يستطع الشيخ دفع 100 أوقية زيادة، ولم يستطع الصراخ في وجه الحكومة التي قررت رفع سعر المحروقات، ولكنه وجد في المشي على الأقدام رغم العجز صونا لكرامته، وملاذا آمنا له من مزيد الإهانة.
وفي الساعة العاشرة ليلا وصل الشيخ لوجهته مسرورا، وكان آخر ما سمعته منه:
– “الله إحقق لك رجاءك”.
آمين يا رب.