لم يكن بودي أن أتحدث عن قضية بين يدي القضاء حتى يقول فيها كلمته، لأن قناعتي الراسخة أن القضاء هو الركن الشديد الذي يأوي إليه كل مواطن إذا ضاع له حق أو سيم خسفا وظلما، وهو الذي إذا انهدّ بنيانه فلا أمل لمظلوم، ولا وَزَرَ لمهضوم، ولا مأوى لخائف، إذ به تكون النصفة للضعاف من الأقوياء، وبه ترجع الحقوق الضائعة إلى مستحقيها.
ولكن ملف الأخ شيخنا ولد اباه ولد الشهلاوي منذ أيامه الأولى بدأ الجميع يحس بأياد خفية، “بعيدة – على قرب – عن القضاء”، تلعب به، وتوجه مساره إلى منعرج يضعف بسببه الأمل في دولة القانون والعدل، بدءا بتسريع إحالة الملف إلى قاضي التحقيق، الذي لم يجد ما يكفي من الأدلة لحبسه، فوضعه تحت الرقابة القضائية، ومرورا بسرعة الاستئناف، كل ذلك في غير أوقات الدوام، ثم بسرعة إصدار “قرار الحبس الاحتياطي” من طرف غرفة الاتهام، ولكن ذلك كله – رغم ما يطرحه من إشارات استفهام – لم يجعلنا يخطر على بالنا أن يصل تدخل السلطة التنفيذية بهذا الشكل السافر، الذي وصل إلى حد أن يطمئن وزير العدل السيد محمد محمود ولد بيه – وهو الراعي المفترض لتطبيق العدالة والإنصاف – نائبا حقوقيا ومحاميا كان يفترض فيه أيضا أن يؤيد تحقيق العدل، وليس أن يطالب بحبس مواطن بغير حق، ولا دليل ولا برهان؛ ولكنني أتساءل هنا، هل يشعر النظام “بوخزات الحرج” إزاء ما وقع من تصريحات وزير العدل، ومن خطابات بيرام التي ما فتئ يتبجح فيها بوقوف السلطة والقضاء معه في هذه القضية بالذات؟!
إن كل لفظ أو تصرف يمكن ان يجد من المحامل ما يخرجه من “ضيق الحرج” إلى سعة “التأويلات” إذ في ذلك مندوحة.
ولكن أن يصل الأمر إلى حد أن يَعِدَ وزير العدل داخل قبة البرلمان نائبا حقوقيا ومحاميا بسجن مواطن بريء كنوع من الترضي وتطييب الخواطر فإن ذلك مما لا ينقضي منه العجب! لكن العجب سرعان ما يتلاشى ويبطل إذا اطلعنا من بعيد على السبب الذي جعل الوزير يصرح هذا التصريح المخيف، وذلك حين نقوم بعملية ربط بين تصريح الوزير وخطابات النائب بيرام اعبيد التي سبقت هذه الحادثة فإن خيوط القضية ستتكشف وتظهر للعيان غير مختفية بجلباب ولا ماشية على استحياء.
فبعد أن تأكد النائب بيرام الداه اعبيد من أن القضاء تجري رياحه بما لا تشتهيه نفسه؛ لعدم وجود ما يكفي من الأدلة، قام بتسجيل صوتي تم تداوله صبّ فيه جام غضبه على النيابة وعلى القضاء ككل، ولكنه في نفس التسجيل يستعطف النظام ويستنجد بصريح العبارة بوزير العدل السيد محمد محمود ولد بيه وبوالده العلامة عبد الله، وقال بالحرف: “أدعوه باسمه وبصفته كوزير وكشيخ ومن “أعيان هذا الوطن، وأدعو والده الذي ليس هنا أن يكونوا معنا في هذه القضية”، ثم يواصل في لغته “الاستعطافية” وبنبرة لا تخلو من مغازلة و”إيحاء”، حيث تحدث عن “قانون الرموز” وأهميته، وأنه لن يحركه إلا “ملف العبودية”، وما سواه يمكن تأجيله.
وهكذا تتساوق أحداث الملف ليحصل الاستئناف في عطلة الأسبوع وتتناغم الجلستان؛ جلسة غرفة الاتهام لتصدر “قرار الحبس” في حق الأخ شيخنا، وجلسة البرلمان التي حملت إلى النائب العيد وحركة “إيرا” تباشير “نصرهم” وكسبهم لهذه القضية على لسان وزير العدل، وبأنهم في “نفس اليوم سيجدون ما يسرهم”! ليخرج الملف من إطاره القضائي البحت، إلى فضاء سياسي تتم فيه المقايضات والصفقات، حيث صرح بيرام أنه لن يحركه إلا شيئان: العبودية، والحريات، في إلماحات واضحة إلى السماح له بالمشاركة السياسية، وكأنه بذلك يضع نفسه تحت تصرف النظام إن هو ترك له هذين الأمرين.
ويتضح ذلك جليا بعد صدور قرار “الحبس الاحتياطي” في حق شيخنا، حيث وصل تسجيل من بيرام يشكر فيه النيابة التي كان يهاجمها بالأمس، ويتهمها بمحاولة إيجاد صيغة لإفلات المتهم من العقوبة وتحويله إلى ضحية، ثم جاء مؤتمره الصحفي كاشفا حاسرا لثامه عن حقيقة المقايضة التي أصبحت لا لبس فيها ولا غموض، جعلت النائب الحقوقي بيرام تبلغ به “نشوة الانتصار المؤقت” أن يتخلى عن “حصافة السياسي” لترجح به كفة “العاطفة الحقوقية”، فيبوح بكل شيء تصريحا وتلميحا، واضعا النظام من جديد في موضع “الإحراج”، ويمكن القول: إن مؤتمر النائب بيرام رئيس حركة “إيرا” غير المرخصة كان بسطا لما قاله في مقاطعه السابقة، التي شكر فيها النظام كثيرا، وحين نحصي مساحة ذكر النظام من خطاب بيرام سنجد أنه قد كاد يحتل أكثر من نصف الخطاب، حيث لا يكاد يقول كلمات يسيرة إلا ورجع إلى النظام يستعطفه ويستجديه، هذا الخطاب الذي ظهر فيه بيرام بمظهر المتحكم الذي يصدر الأوامر ويعد بملاحقة من يهوى ملاحقتهم، في تعد صارخ على صلاحيات السلطة والقضاء؛ لكن الأخطر في كلام النائب الحقوقي هو تصريحه بشكل واضح أن قضية “عين فربه” هذه لم يبق معه أحد فيها ولكنه “رجع له المهم من الناس: السلطة والقضاء”، لتتراآى له “لوحة جميلة بدأها القضاء في ظل هذا النظام”، وما ذلك إلا لأنه تحقق له ما يصبو إليه حيث نجح في حبس من يريد حبسه، وفي مؤتمره هذا شكر السلطة أكثر من مرة على تدخلها في مسار القضاء في قضية العبودية هذه.
وتبلغ ملامح الصفقة والمقايضة في خطاب النائب غاية الوضوح، حين يصرح بأن الناس منشغلون في أمر الأسعار وقانون الرموز، أما هو فلا يشغله شيء من ذلك وإنما همه الوحيد هو العبودية والاسترقاق، ثم يوجه سهامه إلى رجال العشرية وكأنه يقول للنظام الحالي: إنه يقف سدا منيعا بينه وبين هؤلاء الذين يعارضونه من رجال العشرية الذين يهددون النظام “وليس هو منهم” على حد ما قال.
وما فتئ النائب يكرر أنه لا يساوم في أمرين: العبودية والحريات، شارحا ذلك بالسماح له شخصيا “بالمنافسة” حتى مع غلبة الظن أنه سيغلب، وما سوى هذين الأمرين فهو عاد عنده ولا “ينبغي أن يكون مسرحا للصراع، خصوصا في ظل نظام يريد أن ينتهي الصراع”، ثم يتباهى بأنه ليس ممن يعارض النظام ولا “من يتجهجاه”، مواصلا مغازلته إياه بمهاجمة العشرية و”مخلفاتها ” التي جعل منها “اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان”، وهي التي أتحفته بتلك “القرائن المضحكة” التي لم يجد سواها تنبني عليه “دعوى العبودية” التي ما زالت لحد الساعة مجردة مما يصدقها.
ونحن نتساءل أمام هذه الخطابات والمحاورات “المتداخلة”؛ ما علاقة هذا كله بمسألة العبودية، إن لم تكن حصلت صفقة يكون ملف شيخنا فيها هو محل المساومة والاتفاق والتلاقي؟!!
وهل يعقل أن تكون حريات المواطنين موضعا للمساومات السياسية والمقايضات بين النظام وحركة “إيرا” غير المرخصة؟!
وهل يرضى نظام الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بأن يحرجه النائب بيرام بهذه الطريقة المكشوفة؟!
وبعد: فلا تزال بوارق الأمل تحدو نفوسنا إلى بقية عدل في قضائنا، ولا زلنا نعتبره هو الملجأ الوحيد في هذه القضية بالذات، موقنين أن حبل العدالة طويل يسري “في عتمات الظلم” ليلتف على أعناق المتلاعبين بمصائر الناس وحرياتهم وهم في غفلتهم يعمهون، عكس حبال الكذب والتزييف فإنها قصيرة وسرعان ما تنبت بممسكها فإذا هي لا تغني عنه شيئا، و إن الخاسر حقا في صفقته من يروم من السراب شرابا يطفئ ظمأ هيم الحقوق المعتركة على ورد غير مورود، وباب يوشك أن يكون عن أصحاب البهتان مسدود.
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون
سيدي صالح ولد افاه