قبل ربع قرن كنت أنتج للإذاعة مواد ثقافية مختلفة، وأثناء تلك الفترة صدرت كتب قيمة شرفت بمراجعتها وعرضها على الهواء، منها عمل أدبي مهم لأحد أعلام الماضي، قام على نشره إطار سام في إحدى وزارات السيادة لا ينقصه المال ولا الجاه.
احتفى الإعلام وبعض المتعلمين والمهتمين بالكتاب، فقدمت عنه مواضيع عبر جريدة الشعب والتلفزيون والإذاعة. وتحضيرا للمهمة بالغ الناشر في الاحتفاء بي وبزميليّ في الجريدة والتلفزيون، وجاد بنقوده في ظروف عريضة الخصور أعدت إليه نصيبي منها شاكرا دون مبالاة بإصراره ولا إصغاء لدواعي التملك والصرف وبناء الذات لشاب قبل الثلاثين من حياته في عاصمة لا تعرف الرأفة بالفقراء.
بعد شهور من هذا لقيت مطلّقة من أهل مودتي أنذرتْها إدارة الضرائب باتخاذ الإجراءات الكفيلة باقتضاء ثلاثة أرباع مليون أوقية تراكمت على منزل لها آثرت تأجيره على الإقامة به سدا لخلتها، ولم تبال بالضرائب أيام كانت تأوي إلى ركن شديد، فجاءت الضربة حين ارتاد الظهير غيرها وتركها وشأنها.
كانت المرأة قلقة، وقصارى أملها تسوية تدفع ما تطيقه بمقتضاها وتعفيها مما فوق طاقتها، وتلتزم بالدفع مستقبلا. ولأن الغريق يتعلق بأدنى شيء عرضت علي أمرها فوعدتها بطرحه على من أظنه سيقضي حاجتي، لكنها لم ترض مني بغير الالتزام بالتسوية، بينما اقتصر التزامي على السعي بجد وإخلاص؛ فهو ما في يدي. ولم يعجبها هذا فصرفت النظر عني، وبعد أيام فوجئت بها تبعث لي أوراق الموضوع.
حملتُ الأوراق إلى ناشر الكتاب المذكور فتركني بمفردي في مكتبه، وخرج ربع ساعة فعاد إلي وقد ألغى كل ما تراكم على المرأة، وزاد بإعفائها مستقبلا، شاكرا لي على قصده وطالبا إبلاغه بأي خلل في ذلك. وقبل أن أخرج أبلغني بأن وزارة المالية ستوزع قطعا أرضية ذات قيمة، ونصحني بإيداع طلب هناك وتسليم الوصل إليه؛ متعهدا بمتابعته، ففعلت.
بعد فترة قصيرة منحتني الوزارة قطعة أرض كبيرة نسبيا بتعويض رمزي دفعته وبقيت بانتظار ترحيل الأكواخ عنها إلى أن تم ذلك بعد عامين فاصطحبت فنيا لتحديد موقعها وعلّمت أرجاءها وذهبت إلى البادية في إجازتي الخريفية.
بعد أقل من شهر جاء صديق لي فحدثني بأن بعض “الكبة” نقل إلى قطع بالمكان الفلاني فلم أزحزحه عن موقع قطعتي وإن استبعدت مصادرتها بهذه السهولة. وحين عدت إلى المدينة وجدت أرضي (وما جاورها) موزعة بين عدة أسر منها من بدأ تشييد مسكنه، فزرت الوالي مستغربا فقال إن حالتي ليست فريدة، وعرض علي قطعة بديلة في “ملّح” أيام كان على الشاطئ، فـ”سرقت نعلي” واكتفيت من الغنيمة بالإياب، وبعد عام عاودني الأمل حين غمرت المياه “ملح” ورحل السكان والاسم إلى الطرف المقابل من المدينة، فأمضيت مدة تارة أنسى، وتارة أرجئ، وربما قررت لقاء الوالي “غدا” فأصبحت وقد ارتأيت إنجاز مهمة أخرى، إلى أن حسمت الموضوع يوما فقابلت الوالي الذي لم ينتقل طيلة تلك المدة (على غير عادة أصحاب المناصب في تلك الأيام) فأشعرني بأن هذا الملف طوي منذ زمن!
تقاعد صاحبي (الإطار السامي) منذ سنوات، ولم تدفع المرأة شيئا بعد تدخله فيما أعلم، ولعلها ما تزال كذلك؛ بينما تبخرت قطعتي، وخسرت مبلغا من المال في تعويضها وتحديدها وتعليمها. ولم أعجب؛ فقد علمتني الأيام أن ولوج المكاتب في حاجة غيري أجدى من ولوجها في حاجة نفسي.