مقالات

في مهنة المتاعب (20)

محمدُّ سالم ابن جدُّ

لم ألقه قبل تلك الغداة ولا بعدها. كان ذلك مطلع سبتمبر 1992 وكنت صحفيا شابا أجد متعة في النزول إلى الميدان وإجراء التحقيقات والمقابلات. عرّفت بوابه على نفسي فغاب هنيهة وعاد مُرَحِّبا، ولكنه قبل أن يفسح لي الطريق أخرج من جيبه وريقة تحوي اسم شخصٍ ما واسمي أبويه وتاريخ مولده ومكانه، طالبا أن أستخرج له شهادة ميلاد له من طرف من جئت للقائه، أردت سؤاله عن الدافع إلى الاستعانة بزائر غريب في مهمة تتعلق بمن يعمل تحت إمرته ويقف بباب مكتبه! لكن صوت “بطرونه” داعيا إلى الدخول جعلني أؤجل السؤال إلى خروجي.
وضعت البطاقة في جيبي ودلفت إلى مكتب عمدة الميناء يومئذ، محمد عبد الله ولد محمد المصطفى، أستاذ الأدب العربي ومفتش التعليم الثانوي الذي تبوأ ذاك المنصب فترة من الزمن. كنت أتوقع – اعتمادا على تجربتي- أن يعدني بوقت لاحق لإجراء المقابلة التي جئت من أجلها، وربما أرجأه مرة على الأقل حتى يستعد للمنازلة التي لم يشفع لها عند كثير من القوم أن العمل كان لجريدة “الشعب” لسان حال النظام وكل الأنظمة المتعاقبة ودرع المسبحين بحمده. لكن العمدة دعاني للشروع فورا في مهمتي؛ ولا أدري هل أراد مباغتتي قبل التفكير في أسئلتي والمواضيع التي أطرقها معه، لكني أدري أني لم أحشره في الزاوية طيلة الحوار..
ولأني لا أستعمل من أجهزة التسجيل للإعلام المقروء غير ذاكرتي وقلمي كنت أكتب السؤال وأسلمه الصفحة فيكتب إجابته باقتدار، حتى إذا فرغ ناولنيها فكتبت معلقا أو مستوضحا أو كتبت سؤالا جديدا، وهي ميزة وجدتها قبله في شخصية واحدة (ربما أصل إلى ذكرها) ولم أجدها بعدهما إلى اليوم، وقد وفرا علي الكثير من التحرير والتدوير.
أثناء المقابلة دخل الزميل المختار ولد محمد يبتغي تصريحا للإذاعة فمازحته بالقول إن العادة جرت بأن يتجنب الضيف خيمة نزل بها ابن عمه، وإن الزمالة قرابة! فعلق العمدة ضاحكا بأن المشكلة هنا تعلق المهمة “بخيمة” واحدة.
انتهت المقابلة قبل انتهاء الشاي فخرجت بها جاهزة للنشر، ولأن العمدة شيعني لم أر من المناسب إحراج البواب بالاستيضاح بحضرته عما سبق، وبعد أيام رآني في الشارع فأتاني جرْيًا وأنَّبَنِي على فَعلتي، وطلب إعادة الوريقة إليه فبحثت عنها فلم أجدها، لكن إلحاحه استمر أياما (وكنت أتردد على مكان قريب من بلديته) إلى أن وجدتها فأعدتها إليه متعجبا من حاجته إلى ما افترضت أنه معلومات فرد من أسرته، قبل أن أعرف أن للحالة المدنية “تبتابة” نشطين وربما كان البواب أحدَهم وكانت البطاقة لزبون له!
نُشِرت المقابلة بغير العنوان الذي وضعت لها، ودون المقدمة التي كتبت لها استرضاء للنظام وحزبه الجمهوري الذي ينتمي العمدة إليه، بيد أني لا أظن للرجل المحترم علاقة بذلك..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى