عرفت في التعليم فئة من الطلاب لا تطيقني وإن كنت أعطف عليها وأهتم بها. والقاسم المشترك بين تلك الفئة هو ضعف التحصيل والقصور الذهني؛ لذا فالأستاذ يذكر هؤلاء بما لا يطيقون، ومن الطبيعي أن يبغضوه لا لذاته؛ وإنما لما يحيل إليه في أذهانهم من معاناة وعقد. وكنت أحسب الأمر قاصرا على هذا المجال.
وفي الإعلام كثيرا ما أجد أحوج المحررين إلي أحَدَّهم خطابا معي وأكثرهم اجتراء علي، مع استثناءات تؤكد القاعدة. وأقول بصدق إن شعوري كان الشفقة والتعجب لا الغضب وإرادة الانتقام؛ بل كنت أجني على نفسي قصدا، فبقدر ما أنفق من وقتي وما أزعمه خبرتي على عمل بعضهم يلفت الأنظار ويجتلب الثناء والإعجاب فيصيبه الغرور ولا يحاشي به من كان السبب، وإنما يقول كقارون: {إنما أوتيته على علم عندي}.
ومع الوقت تعودتُ غرائب مختلفة اختلاف بصمات أصحابها، فأصبحت أعرف ما يحتاجه عمل كل منهم. أحدهم كان يعاني من نمط غريب من الأخطاء اللغوية منها أنه يكتب جمع السلامة بالياء حين يكون الصواب الواو والعكس بالعكس، وكنت ربما نبهته برفق، فسألني مرة تعليمه قاعدته فنصحته مازحا بأن يكتبه بعكس ما أراد، لأنه مخطئ فيه دائما، ففعل فقل خطؤه فيه.
مرة أجريت مقابلة مع مطلوب أمني مختف عن الأنظار، وأثناء سحب العدد الذي تضمنها قدم زميل عزيز من سفر له فسألته مداعبا مع التحفظ من الكذب: ما رأيك لو وقّعتُ مقابلة مع فلان باسمك؟ فتوتر وقال: ما لي وله؟ أنا لم أكن هنا وإنما وصلت الآن؟! قلت: له ما حدث قد حدث، فواصل تأكيد براءته وواصلت تأكيد انقضاء الأمر، دون أن أقول ما ظنه أو ينتبه إلى أن عباراتي لا تعني ما توهمه.
ويبدو أنه بعد ما خرج غيّر رأيه، فقد عاد إثر صدور المقابلة مستاء من الحرج الذي أوقعته فيه، لأنه حدث معارفه بأنه أجرى مقابلة مع فلان الخطير تصدر اليوم فلما صدرت إذا بها موقعة باسمي أنا!
مما يتصل بما سبق أن شابا (من القراء) سلمني مقالا مطبوعا وموقعا باسمه وصفته (زعم أنه خبير اجتماعي) فقرأته كالعادة لأعرف صلاحيته للنشر فوجدت فيه أفكارا على درجة من العمق والجودة لم أستسغ أن يكون صاحبها من لقيت وتحدثت معه، فوضعت جملة من المقال على محرك البحث فقادني إليه منشورا باسم أستاذ جامعي مصري مشهور، وإذا بالشاب سحبه دون أدنى تغيير سوى إضافة اسمه وما اتصف به إليه!
عجبت كيف يرى أن ما عثر عليه في الفضاء الإلكتروني يخفى على من يمضي يومه متصفحا ومنقبا، وردا على استغبائه إياي قررت نشر المقال باسم صاحبه الشرعي وصورته. وفي تلك الأثناء تردد الشاب علي مستبطئا، فكنت أطمئنه بأن المقال جاهز بالنص والصورة (هو لم يسلمني صورة له) وأنه يستحق النشر لذاته ولمقام كاتبه ولا يعوقه إلا وصول دوره، فيسره قولي، ولم يفهم قصدي حتى صدر المقال باسم كاتبه الحقيقي وصورته!
لم ألق الشاب المذكور ولم أفكر فيه إلى أن دخلت مكانا عموميا بعد شهور فإذا به فيه، فما كان منه إلا أن بادر بالخروج قبل أن أخلي له الباب فكاد يسقطني! كأنما يخشى أن أمسك بتلابيبه وأشهر فعلته.