عندما طلب مني أخي وصديقي الدكتور عبد الله عابد أن أكتب عن تجربتي مع “كورونا”؛ لم أكن في حال نفسية تسمح بذلك.. لقد كنت مثل العائد من رحلة بعيدة.. رحلة مضنية، ورغم شعوري بنعمة العودة إلى هذه الحياة الجميلة رغم كل تفاصيلها المزعجة؛ ورغم قساوتها بعض الأحيان؛ إلا أنني ظللت متمسكا بها وبكل ما أوتيت من قوة.
كان الدكتور يسعى إلى إخراجي من حالتي النفسية تلك؛ لكنني لم أستطع أن أتفاعل معه.. لقد مرت سنة 2021 بكل أيامها دون أن أكتب بيتا من الشعر أو أكتب نصا نثريا ذا بال.. باستثناء قصيدة “اشرب الشاي”، ولعل من الغريب أن يكون آخر ما قلت أبيات عن “أزمة الخضار” قبل ذلك بسنة، مع أني لم أقصد يوما أن أكون شاعر هذا النوع من القضايا.
كنت أستعد للسفر إلى غامبيا بعد عطلة طويلة نسبيا، وكنت أشعر في داخلي أن شيئا ما سيحدث.. لم أدر ما هو، حتى أخي حامد كان يستعجل مجيئي، وعندما يقلق حامد عادة أتأكد أن شيئا سيحدث..
في ليلة احتفال القوات المسلحة بعيدها، وقبل عيد الاستقلال بيومين؛ كنت أتجول في الحي الشاطئي، أسأل عن طريق موصلة إلى داخل المدينة.. شعرت ببرد ليس مستغربا في مكانه ولا زمانه.. زرت بيت خالتي، وعدت إلى البيت..
في الصباح استيقظت محموما، لم تكن حمى مألوفة.. قال الطبيب إنها الملاريا. شربت الدواء لأيام؛ لكن حالتي ظلت تسوء يوما بعد يوم، ورائحة الدواء الكريهة تملأ علي المكان.. أتذوقها في كل طعام وشراب.. بعد أيام طلب الطبيب أن أحضر إلى العيادة التي يداوم فيها، وليتني لم أفعل.. الأطباء انشغلوا بخفض مؤشر السكري وتهبيط درجة الحمى..
أنا أعرف الملاريا جيدا، أصبت بها أكثر من نزلات البرد، هي المرض الأكثر انتشارا في إفريقيا، وأعرف حمى الضنك والحميات المنتشرة في نواكشوط.. لكن هذه الحمى تختلف. كانت تسلخ جلدي، كنت أضعف يوما بعد يوم. قررت بإصرار أن أخرج من العيادة، وبعد فاتورة ضخمة، خرجت محمولا على كرسي.. هي أيام لا أذكرها جيدا، لكنهم حدثوني عنها.
عدت إلى المنزل، وفي الصباح أغمي علي، حملوني إلى المستشفى الوطني، فقد كان الأقرب.. الفحص الأولي “TDR” يظهر خلوي من “كورونا”، مثلما كان يؤكد أطباء العيادة. أصر الدكتور محمد فال ولد امّيْن أن أجري “سكانير” للصدر.. فني الأشعة يتأمل صورة الفحص ويقول إنها تظهر إصابة بالسل أو ما شابه.. يذهل أخي خديم رسول الله من الخبر.. لكن الدكتور محمد فال يؤكد أنني مصاب بالكورونا، وقد أثرت على ما يزيد على 75% من الرئتين.
أُحتجز في المستشفى، في جناح كان معدا للأطفال، وخصص على عجل للمصابين بالكورونا.. مر أسبوع أو أكثر، تدهورت حالتي جدا، يقول الدكتور عبد الله ولد عابد إنه عندما زارني وجدني في حالة مزرية، ملقى على سرير، والأكسجين الذي زودوني به لا يكفي حالتي، وقد كنت ألهث.. في حالة لن أصمد معها إلا يوما أو يومين.
استنفر الدكتور الجميع من أجل نقلي إلى مكان ألقى فيه عناية أفضل. في الحقيقة كدت أن أهلك في ذلك الجناح، لا أذكر إلا القليل عن تلك الفترة، وربما لا أذكر شيئا إلا ماحدثني عنه أخي محمد.. ويبدو أنني كنت رفيقا مزعجا.
بعد اتصالات الدكتور عبد الله، وبعد تدخل الدكتور سيدي مولود؛ نقلت إلى “مركز الفيروسات” في تفرغ زينه.. لقد كتبت لي حياة جديدة بفضل الله ثم بفضل جهودهما الخيرة.. وجدت هناك عناية مختلفة تماما، كنت أحتاج كميات من الأكسجين وأجهزة لا توجد إلا هناك.. بعد أيام استعدت وعيي شيئا فشيئا، أصبحت أسأل عن الصلاة، وبدأت أدرك حقيقة مرضي. أول ما خرجت من مرحلة الخطر؛ قرروا نقلي إلى جناح كورونا الجديد في المستشفى الوطني، وهناك أكملت علاجي.
كان معي في الغرفة شيخ ثمانيني، إمام مسجد، رجل طيب، لم يكن معه مرافق، فكان محمد يخدمنا معا. وكان الشيخ يشكو شدتي على محمد وكثرة طلباتي منه، كان يقول: “لو كنت مكانه، لخرجت من المستشفى وتركتك وحدك”! رغم خطورة وضعه؛ فقد كان رابط الجأش، لا يبالي، ولا يصدق أنه مصاب بكورونا أصلا، يقول إنه مصاب ب”كاشوش امتين فقط”.
لم أكن أبرح السرير، وكنت أعتقد أن الأجهزة هي من يعيقني. وكنت مستعجلا على الخروج، حتى إذا نزعت عني واستويت قائما؛ دارت بي الأرض دورة أو دورتين.. أنكرت نفسي وتنكرت لي كل أعضائي، ويوم تحاملت على نفسي ودخلت الحمام، لم أعرف ذلك الشبح القادم من الموت، الواقف أمامي ينظر إلي في المرآة.. عينان غائرتان، ووجه شاحب، وشعر أشعث.. هذا العنق الدقيق كيف يقوى على حمل رأسي؟! هل يفعل مرض شهر كل هذا بالإنسان، إن الشيخ الثمانيني أنضر مني بكثير وأصلب عودا..
لم أدرك خطورة حالتي إلا تلك اللحظة. ورغم أن مؤشراتي الحيوية تحسنت كثيرا، وقد وعد الطبيب الرئيس، ذلك “الفلاني الطيب”، بإخراجي في الأسبوع القادم؛ إلا أنني في تلك الأيام كنت كمن ينتظر الموت في أي لحظة.. صورة ذلك الشيخ الفاني لا تفارقني.
“حلاوة الروح” كما يقول المصريون جعلتني أحمل على نفسي وأرغمها على الأكل والشرب بقدر، فقد كنت طيلة مرضي أعاف أي مطعم أو مشرب.. فأصبحت أتفنن في الطلبات من الأسرة: اليوم أريد كذا وغدا أريد كذا.. رغم أن المستشفى يوفر أطعمة جيدة، وفي النهاية أعجز عن أكل الجميع.
يوم انتقالي إلى مركز الفيروسات أفقت عليّ بين يدي رجل إسعاف يحملني مثل طفل بين يديه.. كان مرة يتحدث مع مرافقيه باللهجة المغربية ومرة بالإسبانية.. لم يخبرني أحد إلى أين أذهب ولم تكن عندي الرغبة أن أعرف.
لم يكن أمامي غير الدعاء.. كان أنين المرضى في الغرف المجاورة يصلني، وربما حمل معه صياح أحدهم. يحدثنا أحد الممرضين عن شيخ عجوز لا يستطيع أكل طعام المستشفى، ولا مرافق معه، ولا يسأل عنه أحد.. يسأل عن “شوربة” نتصدق بها عليه.
بعض المحتجزين ممن تحسنت حالتهم يجتمعون على الشاي في مظهر مختلف عن أجواء المستشفى، وربما ارتفعت أحاديثهم وهم يخوضون في أمور الدنيا وقصص الحياة..
في الحجز وزير ونائب برلماني وبعض المشاهير بامتيازات قليلة، فالحجز مكتظ.
لولا أيامي في تلك العيادة؛ ولولا أيامي في المستشفى الأولى؛ لقلت إن منظوتنا الصحية بخير..
ظهرت حالات كورونا في العائلة بسبب مخالطتهم لي، ولكن الله سلم.
لدينا طاقم من الأطباء المتدربين وطلاب كلية الطب يختلقون تماما عما ألفناه من أطبائنا المتقادمين.
تغلبت على رهابي القديم من الحقن، فقد أصبحت أمرا عاديا من أحداث اليوم، حقن صباحية، وأخرى مسائية، وحقن الفحوص الدورية.. لقد حقنت حتى في أسفل البطن، والحمد لله.
أشكر أولئك المُقَنَّعِين من الأطباء والممرضين، والذين لا أعرف وجوهم، وقد ضاعت من الذاكرة أسماؤهم.. حتى عمال النظافة أشكرهم..
وأخص بالشكر ذلك الطبيب الذي عاندته بقوة، وهو يريد أن يضع جهاز التنفس المرعب على وجهي.. لم أكن أدرك مخاوفه، وشكرا له على إصراره.
أشكر الدكتور يماني على متابعته لحالتي في بداية مرضي، والدكتورة الشريفة محمد التي كانت تحمل للأسرة أخباري حين كانت شحيحة.
أسأل الله أن يختم لي بالشهادة بعد طول عمر، وأن يرزقني تلك المزية.. فكم من مرة دخلت حالات خطر، ولم تكن الكلمة الطيبة هي آخر ما ألهج به.. أسأل الله أن يختم لنا بها جميعا..