يسألونك عني هذه الأيام كثيرا.. ويتحدثون عني كثيرا .. يسألون عني في كل مكان.. على عروش الولاء.. وفي مخادع البراء.. وعند قبور الأولياء.. في الصحف الصفراء وعلى أمواج الأثير.. يبحثون في ثنايا الغيب عن سر سري.. يريدون شهادة ميلادي الأصلية وبطاقة تعريفي الشخصية .. يتطلعون في مشارق التجلي إلى شهودي وحقيقة وجودي.. يريدون جنسية أحلامي.. وهوية عقيدتي.. يبحثون عن بصمة ذوقي .. وفصيلة دم أقنعتي المتعددة..
أنا نفحة من شطآن الفجر.. ناعمة كهبات نسيم العطر.. لطيفة كابتسامة الورد البليل.. هشة كمرايا الحلم اللذيذ.. صافية كدمعة الأم الحنون.. أنا بنت العدل والمساواة .. وزوج السعادة في هذا الوجود.. أنا حمامة بيضاء تحمل فوق الغيم رسائل الود إلى كواسر الصقور.. وطريدة في مصائد البؤس تثيرها أنات مواجع الزمن.. فهل عرفتني أيها السائل الكريم ؟
أنا في بستان الإنسانية وردة حلم عاثر الحظ في مشاتي الجنوب.. وريحانة سعْد طيبة الأريج في مصايف الشمال.. تنتعش بنضرتي وجنةُ الرعية ويغصُّ من عبيريكل تاج مرصّع بالرؤوس النووية.. أنا ثمرة نخل هجين عُدّلت “جِينَاتُ” طعْمه في مختبر التصالح بين السلب والإيجاب.. بيضاء كشُرُفات الغيم .. خضراء كعباءة الزيتون .. شقراء كشفاه الشفق الحزين.. حمراء كألسنة اللهيب .. وأنا بلا لون ولا طعم ولا ريح .. كماء غيث توضأ منه الشك في آنية من هواء التاريخ… فهل عرفتني أيها السائل الكريم ؟
أنا ضالة الإنسان على وجه الأرض ينشدني في أقْبِية العقل ومتاهات الأهوء.. أسكن جزر التاريخ منذ القدم.. أسافر في بحر الزمانهربا من قروش المكان .. مكتوب علي جواز سفري » لا يجري العمل بهذا الجواز في العالم الثالث« ..
كنت في كتب الإغريق غزالا شاردا في صحاري الأبد، ونورا طليقا يضيء مسالك الكون .. تلفعتُ بضباب السنين لأشق غبار الماضي السحيق .. واعتزلت في صومعة العصور الوسطى قبل أن أجوب متاهات الكون الفسيح … أبحث عن كوكب دري يعصمني من الماء… فهل عرفتني أيها السائل الكريم ؟
أنا مِلْكُ الشعب عند اليونان .. لكنشعب الإغريق لم يرنيي خارج كتب الفلسفة.. لأنني لبست أساور من ذهب الملْك.. وحبست نون النسوة في خدور الغيرة.. ووضعت أغلال النسيانفي معاصم العامة.. ثم ارتميت في أحضان النخبة على فراش خطيئة الطبقية.. فهل عرفتني أيها السائل الكريم ؟
وأنا عند الغرب.. تجلي انحسار الجماعة في الفرد.. وانتشار الإباحية في مجازر الأخلاق.. وأوجاعُ ثقافة تبحث في جمع الجمع عن ضمير المفرد .. ودستور وَهْم يقرر الفصل بين السلطات الثلاث على فضاء السلطة الرابعة.. ليجمع في سلطة خامسة بين سلطة المال ومال السلطة.. وأنا منارة فكر تبحث في صناديق الاقتراع عن سطوة الكم على الكيف.. وتضع طلاء من الذهب على أغلال الشعوب.. لتكرس تحت عباءة الليبرالية استبداد الأغلبية البسيطة وإقصاء الأقلية غير البسيطة.. فهل عرفتني أيها السائل الكريم؟
أنا في مشاتي الشرق نجمة حمراء على قبعة الفجر.. ونبتة حمقاء من وادي صراع الطبقات.. تؤمن برسالة المادة وتسبح بحمد وسائل الإنتاج.. إنني شرارة فكر تحفي بصمة الفرد تحت ضباب الجماعة وتأخذ مناسكها عن “رأس المال” خلف جدار برلين..وأنا في الحقيقة كبريت أحمر يزرع بذور الحتمية في حقل التطور التاريخي.. وعنقاءُ كـرْم تسكب سلاف الحديث في جماجم المعارضين.. فهل عرفتني أيها السائل الكريم ؟
أما في دار الإسلام فأنا زيتونة لا شرقية ولا غربية .. أرتوي من زلال النقل، فأزهر أكمام العقل ، وأثمر فاكهة الشورى.. وأنا شمس حق تنير ظلام الكون.. و تحقق مناط الوجود لأنني صاحبة الحق في الولاية والعزل .. جئت من السقيفة غيمة نور زرقاء تُظِل خلافةً على منهاج النبوة .. أرقّع ثوب العدل.. وأفترش أرض الأمان.. على جبيني شعار ».. أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإذا عصيتُه فلا طاعة لي عليكم« .. إلى أن خلفَ خلْفٌ ألزموا طاعة الرعية لأولي الأمر.. قبل طاعة أولي الأمر لمن له الأمر من قبل ومن بعد..فعدت إلى مخدع الزمن ..ثم خرجت ملكًا عاضًا يُحمّل المؤسسات الدستورية حق كل بغلة عثرت في العراق.. ويعتقد أن الشخصيات الاعتبارية تزر كل وازرة أخرى،وتبعث ثم تحاسبيوم القيامة. فهل عرفتني أيها السائل الكريم؟
جئت من مغرب الأرض فرارا من تقلبات طقس القيم.. ومدّ التناقض بين الغاية والوسيلة.. وهربا من حقوق الإنسان تصان للفرد وتهدر عندما يتعلق الأمر بكل شعب لا يسجد لنحمة داوود أو لا يتحنث في محراب “وول استريت”.. ومن إلغاء عقوبة الإعدام عن “قاتلالزبير” والإجماع على تطبيق حد الإبادة الجماعية على الأمم التي تطلب حق تقرير المصير..
جئت من مغرب الشمس فرارا من رأس المال يمتص عرق جبين الفقر.. ومن سطوة جنْد المصالح على رعايا الحقوق .. كلما شِمتُ بروق الليبرالية أمطرت على مرابع الأمل رذاذ الأوهام، وأرسلت في حقل المطامع صواعق الربا … حتى إذا عصفت زوابع الذعر الافتراضي تداعت أركان كل صرح ليبرالي وتبددت أوصاله كرماد في “وول استريت” اشتدت به رياح سنة 1929…
جئت من الغرب فرارا من إطلاق العنان لشهوات سدنة القانون الدستوري ومن شطط الفقه الليبرالي يُبِيح غمْط 49 % من الحقوق ما احتُرِمتْ 51 % من الرغبات… جئت من مغرب الأرض لأن الغرب لا يريد للشمس أن تطلع من الشرق.. ولا أن تنير هضبات طموح الجنوب…
وجئت من مشارق الأرض خوفا على ضمير المفرد من واو الجماعة .. تلغي بطاقة ميلاده الأصلية .. وتمنع عرق جبينه من حق الملكية.. تصادر حاسته السادسة.. وتغتال بصمة رأيه الشخصية.. جئت من مشرق الشمس إشفاقا عليها من الغروب في بحر جماعة طردوا من أحلامها طعم الحرية.. واغتصبوا منها الممارسة الفعلية لما تملكه من وهم السلطة النظرية..
جئت من وراء “الكوكاز” لأنني أكره أقبية الفكر الشمولي.. وكل أوهام تعتبر صوابا لا يحتمل الخطأ.. وكل نجم لا يبحث عن نصف عقله في مجرات الوفاء.. ويخاف أن يحجب الشمسَ عنعينه زحامُ الآراء ..
ثم رحلت إلى “باندونغ” أنوي عدم الانحياز .. لكنني عدت لأنحاز لكل منحاز.. ووجدتني سرابا بقيعة .. أصدح بالحوار الصاخب.. والأصوات اللاغية.. والوعود البراقة.. أعلن توفير الأوكسجين مجانا لكل رئة محرومة وتوزيع نور الشمس مجانا على كل بيت لا يسأل الناس إلحافا.. ثم أهمس في أذن حديث النفس أن رَكّبْ على جبين الرعية عدادات استهلاك الهواء النقي وحاسبات استخدام الطاقة الشمسية..
وهربت من العالم الرابع خوفا من عدوى شظف العيش .. ودواهي عدم الاستقرار .. وتركيب ديكور الشرعية في مسرح الجريمة.. فأنا أخاف كل من يعلم ما في أرحام صناديق الاقتراع.. وأكره الزواج مدى الحياة من فارس أحلام لا تشيب ذوائب عرشه.. يعرف أن الطلاق مرتان.. ويرفض التسريح بإحسان.. ويجلس كل مرة على منبر حب البقاء…
وهربت من العالم الخامس خوفا من القبعات الحمر تخرج على الحاكم بلا مخرج بَوَاح .. وتدخل بلا استئذان على مخادع الرعية.. فأنا أخاف شظايا البياناتالعسكرية .. وغياب الوعي المدني في زغاريد نساء القبيلة .. وأكره كل حلم لا يحترم إشارات المرور.. ويضغط على زناد الغدر في نحر الدستور… ليمنع موكب التناوب من المرور..
وأنا في عصر العولمة ملكة جمال العالم.. تعشق مناديلي الشعوب وتُفتَنُ بدلال عطري الأمم .. يحجبني السلطانفي مخادع الحريم .. ويوسع مضجعي في ثناياالدساتير .. ويكتبني طموحُ الشباب على جدران الأملفي سكينته الليل..وترقبني بعين الغدر كل قبعة حمراء تغني خارج أسرابالولاء ..
فهل عرفتني أيها السائل الكريم ؟ .. خذ طرف خماري وأكشف غيوم قناعي.. فأنا الديمقراطية.. أنا الحكمة والتوفيق الصعب بين السلطة والعدل والحرية والمساواة والنظام.. تلك بصمة روحي .. وفصيلة دم ولائي الأبدية…تلك بطاقة تعريفي الرسمية وجنسية أحلاميالقزحية ونسخة غير مصدقة من هويتي العالمية…لكنني هذه الأيام غيمة بيضاء حدَتْها الساريات من وراء البحار.. جئت إليك لأنني بحاجة إلى أن أستريح بين ذراعيك.. وأقيم بين وادي الكرى وواديَيْ عِلْمٍ وتمْرٍ لديك.. فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ..