كانت للناس هنا في الماضي رياضاتهم الذهنية النابعة من موروثهم التراكمي ممزوجا بخصائصهم الحضارية، ولهم رياضاتهم البدنية النابعة من بيئتهم، المعتمدةُ على وسائلهم، الممتزجةُ بحياتهم؛ وهي رياضات لها أدبها وقوانينها وأعرافها ومفرداتها وأساليبها ونوادرها وأبطالها وضحاياها.
وإذا اقتصرت على تلك البدنية التي انقرضت تقريبا، ثم على أهم ما شاهدتُه فسأتحدث عن ثلاث رياضات هي المسابقة (اللز) والمصارعة (أطيعوز) وضرب الكرة (كز التود).
أولا المسابقة
وكانت تجري على الإبل وربما جرت على الحمير إذا كان المتسابقون أطفالا أو نحوهم، وقد تجري على الأقدام نادرا، وسمعت أنها تجري على الخيل، ولكن هذه لم تكن في المنطقة التي نشأت بها؛ بل لم أرها قبل العاشرة من عمري أثناء إقامتنا بالعاصمة.
ومن شأن ذي الثقة في مركوبه أن لا يستخدم العصا، وإنما يكتفي بالهمز بقدمه أو التلويح بطرف لثامه. ومن الإبل ما يطوي المضمار (يسمونه المرجع، بترقيق الراء) بسرعة ولكنه يرتبك في النهاية (إيكِرْ في المرجع) فيزيغ يمينا أو شمالا فتزيد عليه المسافة لذلك، ويخجل راكبه، ويكون الفوز من نصيب منافسه. وغالبا ما تدور الدائرة على المتحدي، ولا أدري هل يكون تحديه سبب الانتباه إلى ذلك وشهرته. ومن أخطر المنافسين من يخادع مسابِقَه ليفوز عليه، كأن يكبت مركوبه ويكفكفه حتى يغتر منافسه بالتقدم الوهمي ويكلّ مركوبه، فإذا قَلَّ الباقي من المسافة أطلق المخادعُ الخطامَ لمركوبه ونهره أو ضربه فيسبق في الخطوات الأخيرة!
كان الناس يستقبلون الفائز برمي القماش على جمله، وكان هذا يحرص على النزول فور وصوله – ولو بالوثب إن ضاق الوقت- تأكيدا لفوزه، ومن براعته أن يحط رحله قبل وصول خصمه، ومنهم من يحل الوضين والذناب في الأمتار الأخيرة من المضمار فيُنزِل رحله معه!
أحدهم سمعت (ولم أره) أنه وقف في الرحل ورفع دراعته إلى منتصفه لئلا تعلق بالرحل.. ووثب، ولكن بعض ثيابه سبقه إلى الأرض، فنغص ذلك من شعوره بالنصر.
ومن أطرف ما رأيت مما يتعلق بهذه الرياضة حادثة جرت قريبا نسبيا؛ ففي الثامن والعشرين من نوفمبر سنة 1985 كانت البلاد تخلد مرور ربع قرن على استقلالها، فجرى الاحتفال بطريقة استعراضية، وعلى أصعدة مختلفة، وبمظاهر متنوعة.
كنت يومها بِوادي الناقة، وجرت الأنشطة تحت إشراف الشيخ ولد الشواف (الحاكم وقتها) وكان من ضمنها مسابقة للركبان، وعند نقطة الانطلاق كان راكب يجوب الأرض لحاجته فرأى علامات الاستعداد للسباق التي لا تخطئها عين عارف بها، فأطلق الخطام لبعيره دون معرفة بموضوع السباق، وإنما لإثبات جدارة بعيره، ووصل ثانيا فنال احتفاء من الجمهور ومن سلطات المقاطعة ووجهائها أثار استغرابه، وتسلم عشرين ألف أوقية، وحينها بدأ يفهم كنه الأمر! ثم واصل رحلته إلى حيث لا أدري.
لم أمارس هذه الرياضة على كثرة ما شاهدت منها وحبي لركوب الإبل؛ أو على الأصح مارستها مرة واحدة بطريقة شاذة!
في مساء من يناير 1984 كنت وصديقا لي في مثل عمري في سفر على جمل للصديق، وتخفيفا لوطأة السفر كنا نلجأ إلى النوادر القولية والفعلية، فقلت له إن بإمكاني أن أسبق الجمل، فكذبني معتزا بسرعة “الحيمر” وأكدت له قولي، ولما أصر كلانا على رأيه حددنا شجرة تناهز 50 مترا من حيث كنا، ونزلتُ، وانطلقنا معا فسبقت الجمل بأمتار.
ولأن هذا ضار بـ”سمعة” الجمل فقد كتمته حتى الآن جبرا لخاطر صديقي العزيز الذي ربما كان جمله أخنى عليه الزمان كما أخنى على رأسه الذي غزاه التصحر كما يغزو سائر المناطق الخصبة.
ثانيا المصارعة
وكانت من رياضات الفتيان، ولها طرق لم أرها فيما قرأت عنه أو شاهدته من الرياضات، ولم تهتم السلطات الموريتانية المتعاقبة بالحفاظ عليها بله تقديمها إلى العالم؛ وهو إهمال لا يختص بها، ولكن الحديث الآن عنها.
تمثل عبارة “تيعريش” إعلان التحدي، وقد يصاحبها انحناء من قائلها يشبه الركوع إظهارا لاقتران التحدي اللفظي بالاستعداد البدني. هنا ينهض المتحدى إلى خصمه الذي يكون في الغالب قد تأهب، فيحتزم بلثامه أو بدراعته عاقدا كميها عند قفاه ويقلب الجزء الأسفل منها فتقصر بذلك، ثم يعقد طرفيها خلف ظهره (تسمى هذه الطريقة أم اللفاغيه وقلب اللفاغيه) وقد يُمِر طرفها من بين رجليه (وتسمى هذه أم اشماله) وربما زاد برفع رجلي سراويله (هذا اسم المفرد!) وكان مواليد ما بعد الاستقلال يكتفون في الغالب بخلع الدراعة وإحكام السراويل حول الوسط، أما رفع رجلي السراويل فلم يعد ممكنا بعد ما صارت تصميمات ماكينات الخياطة مستخدمة، لأنها تجعل فتحتي الرجلين ضيقتين يصعب أن تتجاوزا الركبتين أحيانا.
لكن الواثقين من قدراتهم لا يحتزمون أصلا، وإنما يصارعون ويمارسون أغلب الأعمال العضلية كما هم!
يفتل المصارع رجله برجل مصارعه (وغالبا ما تكونان اليمنيين) ثم يكون هدف كل منهما رفع الآخر وتحريره من الجاذبية الأرضية. ومن المحرمات إمساك المرفوع بثوب رافعه وإمساك كليهما ما لا يشارك في العملية من أعضاء البدن، فإذا رفعه بحيث لم يبق له تشبث بالأرض ولا بما يليها من خصمه فقد غلبه؛ وأهل النخوة لا يستحسنون ضرب الأرض بالمصارع بعد إظهار القدرة عليه، وإنما يرسلونه برفق، إلا أن أغلب المصارعين يرمي قرنه إلى الأرض ولا يبالي على أي جسده كان مصرعه! وقد تحدث الكسور جراء ذلك.
وقد يكون المصارع ماكرا فيستسلم لخصمه حتى إذا اغتر برفعه عاد برشاقة إلى الأرض فرفعه على غرة وطوح به!
من مفردات هذا النشاط ما انقرض بانقراضه كالكرطاطية وأبَطان وأم آكريفيص.. ونحو ذلك، بيد أن من مفرداته ما لا يختص به كالكرطاطية؛ فهي أيضا علم على حلاقة كانت تتم بموسيين ماضيين يجمعهما الحالق فيمسكهما على هيئة المقص، ويعمل بهما ما نعمله به الآن! كما أن أم آكريفيص اسم لعرقلة تتمثل في إدخال المطارِد لرجله بين رجلي مطارَده أثناء الجري فيهوي هذا إلى الأرض، وغالبا ما يكون وجهه أول واصل منه إليها. وهذان انقرضا أيضا.
ثالثا لعب الكرة (كز التود)
رياضة كانت ذات شعبية عالية، وفي بداية طفولتي كنت أرى الكرات تعد من قطع جلد محشوة بالخرق البالية بطريقة تضمن خفتها وتكويرها شبه الكامل. ومنذ عام 1970 بدأت أرى كرات التنس التي لم أعتقد في البداية إلا أنها صنعت لأجل تلك الرياضة بالذات، وكنا ندعوها “لمزيقبه” تمييزا لها عن تلك الجلدية.
كانت لهذه الرياضة – كسابقتيها- أعرافها ومفرداتها ووسائلها وأساليبها وأنصارها؛ بل وأدبها أيضا، ومما سار من الأمثال “الكز واعر” على وجه التورية. وكذا قولهم: “أخبار التود تبگَ في الگود” ويضرب في ضرورة تناسي الشحناء. وربما حسم الفوز فيها النزاع بين المتفاخرين. وكان من يخطئها يرمى بأنه “أكول للزبدة” وكان الزُّبْد إداما شهيا للطعام، وربما تجنبه الرجال لما وصم به من أن الزبدة “تنفش” الرجال!
وكان لعبها – فيما أعلم- يتم وفق طريقتين تعتمدان على العصي، وينطبق على كلتيهما المثل الشعبي “المطلوب من الكرة الجري” وتتفقان في الوقت (المساء):
1. التعوام؛ ويسمى “اتْحَورِيرْ” أيضا (بترقيق الراءين) وهو أن يضرب كل لاعب الكرة في الهواء فيستبق إليها من هوت إلى ناحيتهم وغالبا ما يضربها أحدهم قبل أن تصل إلى الأرض، وكان شأنه أخف من سواه لعدم وجود غالب ولا مغلوب فيه.
2. الغلب أو “قسمة التود” وتجري بطريقة معقّدة إلى حد ما، وتعتمد على عصي معقوفة النهايات تسمى “لغواريف” ومفردها “غَوْرَافه” ومنهم مَنْ يفسر بها قول النابغة الذبياني:
خطاطيف حجن في حبال متينة ** تمد بها أيد إليك نوازع
ولا يخفى عدم الانطباق التام للبيت على ما وصفته.
ولهذه الطريقة أساليب تتفق في جزئيات وتختلف في أخرى.
أ. اتراكيز؛ وهو توزيع اللاعبين على أساس تحديد كفء لكل لاعب ثم ينقسمون إلى فريقين بناء على ذلك.
ب. اتعاصير؛ ويقوم على أساس مواليد الفترات الزمنية (الأعصار) بحيث يلعب لدات فترة ضد لدات أخرى (عصر ضد عصر) وتقضي قوانين اللعبة بأن كل “عصر” ضد سابقه ولاحقه؛ فإذا كانت المباراة بين 5 و 6 فإن 1، 3، 7، 9، يلعبون لصالح 5 تلقائيا، بينما يلعب 2، 4، 8، 10، لصالح 6 تلقائيا أيضا، ويسمى أقرب الأكابر من أنصاره سنا إليه آباءه، والباقون جدوده. أما أنصاره من الأصاغر فأبناؤه وإن نزلوا.
تتيح هذه الطريقة اللعب لجميع من أراد، ولكنها لا تضمن التماثل بين الفريقين؛ فهذا يعود إلى وفرة كل “عصر” ثم إلى الحاضرين منه.
ج. طريقة النقر (الانتقاء) وتبدأ بكلمات غريبة يتبادلها اثنان من الفريقين (غالبا ما يكونان قائديهما) أورِدُها للتاريخ، ونكاية بمن عشقوا اللغات الأجنبية:
– بِتّيرْمَه (تنطق التاء شينا فارسية ممالة).
– بِلّيرمه (اللام ممال).
– انبتُّو (تنطق التاء شينا فارسية مشددة(.
– انحلگُ.
– انشلگُ.
– انبلگُ (اللامات الثلاثة مغلظة).
– حولي عنك بالنگره.
– انگر وابرك.
– ناگر.. (ويذكر اسم لاعب).
– ناگر.. (ويذكر اسم آخر).
وهكذا يختار كل منهما لاعبا على التناوب حتى ينتهي الحاضرون، وإذا كان في اللاعبين شخص مرغوب حرص كل منهما على أن يكون البادئ بالكلمات أعلاه لأن تسلسلها يفضي بمن بدأ (قائل بِتّيرْمَه) إلى أن يختار قبل غيره. وإذا كان أحد الفريقين يلعب ضد الريح زيد بلاعب على الذي يلعب معها.
تحدد نقطتان يكون وصول الكرة إلى إحداهما انتصارا لمن يلعب في ذاك الاتجاه، وقد يكون الفوز بتخلي المنافسين عن الدفاع؛ وهي طريقة تقوم على الصبر وطول النفس، وقد لا يتجاوز الأمر فيها دورة واحدة خلال اليوم، وقد لا يتحقق فوز على الإطلاق.
حين يتحدد الفريقان ينبثان في اتجاهي اللعب على أساس التوجيهات والكفاءات، وينقسم اللاعبون إلى ثلاثة أقسام هي:
– الحواصه (بمثابة المهاجمين).
– الرَّيَّاظه (المدافعون).
– الغرتاله (لاعبو الوسط).
حين يتأهب الطرفان يبدأ اللعب، وتكون انطلاقته من نقطة الوسط بين النهايتين (تسمى “الْمَوْرْدَه) إذا كانتا محددتين، فإن كان النصر بتخلي المدافعين لم تكن حاجة إلى تحديد نقطة الانطلاق.
في الحالين إما أن ترمى الكرة إلى أعلى فيتلقفها ممثلا الطرفين بعصويهما ليضربها من أصابها إلى الجهة التي يلعب إليها، وإما أن تدفن على عمق قريب ثم ينتدب شخص من كل فريق فيبدآن ضرب موضعها بالتناوب – لكن بسرعة- حتى يصيبها أحدهما فيُطيرها إلى حيث يريد؛ وبذا ينطلق اللعب.
من المحظورات لمس الكرة باليد، فإن حدث أعيدت اللعبة من البداية، وقد يكتفى بإعادتها إلى موضعها قبل المخالفة، وعلى كل يكون استئناف اللعب بدفنها أو رميها في الهواء على التفصيل الآنف. أما لمسها بالرجل فلا حرج فيه إلا أنه يعرض الفاعل للإصابة بعصي اللاعبين.
كما أن من المحظورات جعل الكرة عن يسار اللاعب لأن في ذلك عرقلة للمنافسين الذين يلعبون في عكس اتجاهه؛ لذا يسمى “اگليع الزر” ويعاقب عليه بدفع الفاعل بعنف مصحوب بكلمة “زرّك!” ومن سوء حظ الأعسر أن لا يجد من يتفهم دافعه، وإذا كان اللاعب أضبط حمل عصوين فلعب بيمناه في الازدحام فإذا خلا له الميدان لعب بيسراه.
إذا أصيب لاعب أو انكسرت عصاه أو تعطل عن اللعب أعلنها فريقه بالقول: “مانَّ الكم” (لسنا لكم، والمقصود لسنا جاهزين) فيوقف اللعب إلى أن يستكمل الطرف المعني استعداده أو يعوض لاعبه أو ينقص المنافسون نظيرا له.
عفوا.. أطلت عليكم. حان إغلاق المتحف!